نهاية غول قصة: ناجي ظاهر
نهاية غول
قصة: ناجي ظاهر
ما إن غربت شمس عام 1948، ورحل من رحل من الاهالي الفلسطينيين وبقي من بقي، حتى استجد وضع حافل بالحكايات والاقاصيص،.. وبات مساحة خصبة للأقوال والاقاويل. وقد انتشرت في تلك الفترة قصة الرجل الغول المرعب قاطع الاذن اليمنى، وكان هذا، كما تناقل الناس في تلك الفترة، قد تقدم الى سلطات الاحتلال المعنية، بطلب رخصة ” جفت” انجليزي، لصيد الخنازير البرية، في الظاهر وللمواجهة اعداء له، طالما هددوه وتوعدوه بالقتل في ليلة معتمة لا قمر فيها، فما كان ممن تقدم لهم الا ان احالوه.. من مسؤول حكومي الى اخر، الى ان توقف في غرفة ضيقة قبالة محقق ذي ملامح قاسية، واستمع اليه بنوع من الرهبة يقول له: سنعطيك رخصة جفت انجليزي وسوف نفتح امامك المجال واسعا لصيد ما تود اصطياده من الخنازير البرية، شريطة ان تتعاون معنا، في انهاء ظاهرة المهربين والقضاء عليها. عندها تصور الغول نفسه يتقلد الجفت ذا الخرطوش الرش، على كتفه ويعتلي جيبا المانيا مصلوبا على بوزه خنوص صغير، فاعجب بنفسه، وتوجه من فوره للمحقق قبالته بنوع من تصعير الخد والصلف.. سائلا اياه عما إذا كان بإمكانه ان يتمادى في طلب كرمه فيزوده بجيب يرتاد به الجبال وينزل الوديان بحثا عن المهربين. أيقن المحقق المنكح انه امام متعاون حقيقي، وانه بإمكانه ان يعتمد عليه، فأرسل نحوه نظرة غامضة، وهو يقول: وهو كذلك، فما كان من الغول الا ان سأله ليتأكد مما سمعته اذناه، هل انت محق بوعدك هذا؟ فرد المحقق بصلف أكبر: تعال غدا لتأخذ الجيب. احنا بنلعبش.
في صبيحة اليوم التالي المبكرة، وفد الغول الى مركز الشرطة في القشلة، وحاول ان يدخل ليأخذ الجيب الالماني الموعود، فما كان من حارس المركز الا ان رده مهددا اياه بإطلاق النار عليه، إذا ما تمادى وحاول الدخول بالقوة. ارتد الغول الى الوراء. وسوى منطقة استخرجت منها المناجذ عدة اكوام من التراب ونام عليها وهو يرسل انظاره المترقبة الى فروع شجرة الزنزلخت فوقه. استسلم الغول الى النوم، وحلم انه دخل الى مركز الشرطة ورأى الجيب ينتظره هناك، لكن ما إن اقترب منه ليضع يده عليه، حتى شعر بمحركه يدور بقوة، وبه ينطلق بعيدا.. كان ذاك كابوس، دفعه للنظر في ساعته ليلاحظ ان الوقت قد مضى وان الشمس قد تعالت.
حمل الغول نفسه ودخل الى مركز الشرطة، وتوجه هذه المرة الى غرفة المحقق ذاته، ليفاجئه هذا مرحبا ومهللا ومخبرا اياه ان رخصة الجفت الانجليزي والجيب الالماني حاضران. افترشت الابتسامة وجه الغول، وقال للمحقق قبالته، ما المطلوب مني؟ كيف على ان اتصرف؟ فنفر به المحقق قائلا: عليك ان تلاحق المهربين في كل مكان وموقع، وان تقتلهم بلا رحمة. وطلب منه ان يأتي اليه بالأذن اليمنى لمن يقتله منهم ليتأكد من انه قتله. وزيادة في الاقناع اردف المحقق يقول: انني اطلب منك هذا الطلب الصعب لسبب بسيط هو انه يوجد هناك من هو اعلى مني.. ومن حقه ان يتأكد أنك اديت واجبك على النحو المرجو والمنشود.
بعد وقت قصير تمنطق الغول بالجفت الانجليزي، وركب الجيب الالماني، وانطلق باتجاه بيته. هناك استقبله اهل بيته بالبِشر والسرور، وتوافدوا واحدا وراء الآخر لتهنئته بما صارت اليه احواله من راحة ونعيم. ومع هذا لم ينم جيدا، وتصور نفسه يطلق النار على مهرب هرب منه، فيسقط هذا ارضا ليقترب منه ويطلق مرة اخرى وسط استغاثته ودموعه، الا انه يبادر لتنفيذ المهمة المنوطة به.. يستل السكين المشحوذة جيدا ويقتطع اذنه اليمنى. عندما هاله ما تصوره خاطب نفسه قائلا” كل شيء في البداية يبدو صعبا”.
وهكذا كان.. انطلق في اليوم التالي باتجاه الخط الحدودي، ولبد وراء صخرة كبيرة بانتظار صيده الاول.. ومضى الوقت دون ان يفد احد، وعندما اقترب المساء، اقنع نفسه انه لن يعثر على ما انتظره وترقب حضوره، وما إن تحرك في موقعه محاولا الانصراف، حتى احس بشبح يقترب من مكمنه مخترقا العتمة والاشجار.. فعاد وانكمش على نفسه. ما إن اقترب الشبح من مخبئه حتى صوّب جفته الى صدره واطلق، لينطلق الرصاص فيخترق صدر الجسم المقترب. تهاوى الشبح امامه صارخا” يمّا”، فاقترب منه، واطلق عليه مرة اخرى، بعدها استل سكينه الماضية، واقتطع اذنه اليمنى. ومضى في طريقه عائدا من حيث اتى ومتصورا ما سيناله من جوائز وهدايا سنية لقاء عمله البطولي.
تكرر في اليوم التالي ما وقع في اليوم الاول، اما في اليوم الثالث فقد اختلف الامر، فقد انتشر خبر قاطع الاذن اليمنى. الامر الذي جعل المهربين الفقراء يأخذون المزيد من الحيطة والحذر. عندها وجد الغول نفسه في مازق حقيقي، فمن اين يأتي بالأذان ليقدمها الى محقّقه؟.. وكان ان تفتق عقله المبدع الخلاق، عن فكرة ما لبث ان بادر الى تنفيذها. ارتدى ملابس مهرب فقير، وتوجه، بعد بحث وتنقيب، الى مهرب معروف، ليترافق هذا معه، في عملياته الخطرة، واتفق معه على ان يعطيه الربح الاكبر. المهرب فرح بعرض الغول، ومضى الاثنان باتجاه حي العرب. اشتريا ما ارادا تهريبه من سجائر وايشاربات، ومضيا عائدين عبر السهول الجبال والتلال. عندما تعب الاثنان استلقيا تحت شجرة قريبة من الحدود، ليرتاحا من وعثاء السفر، وعندما سمع الغول شخير المهرب. اقترب منه وغرس سكينه في قلبه، وعندما أحس ان روحه قد غادرت جسمه، أدني سكينه من اذنه اليمنى واقتطعها.
انتشر خبر مقتل هذا المهرب، فراح المهربون يحققون وينقبون الى ان توصلوا الى الحقيقة، الغول هو القاتل. والهدف هي اذن المهرب، وإلا اين ذهبت اذنه ومَن المستفيد منها؟ وكان ان اتخذ شيخ المهربين قرارا وقال بتصميم:” علينا ان نضع حدا لهذه المهزلة.. والا اكلنا الغول واحدا تلو الاخر”.
قرار شيخ المهربين، سرى سريان النار في الهشيم اليابس، الحاضر للاشتعال، وكان ان اخذوا ينتظرون ان يفد الغول الى أحدهم لمرافقته الى حي العرب. وما إن خرج الغول من بيته متخفيا بزي مهرب، ودلّته حاسته الرهيبة المدربة على احد المهربين، حتى اقترب منه، وعقد معه صفقة، تقضي بان يترافق الاثنان في عملية تهريب كبيرة، يكون فيها نصيب المهرب اكبر. ابتسم المهرب وهو يستمع الى كلام الغول المتخفي، وقال له “تمام افندم”.
عملية التهريب جرت بدقة واحكام، بالضبط كما خطط لها الاثنان، وعندما تعبا في طريق عودتهما، اخذ الغول في التثاؤب، في محاولة منه لان يدفع مرافقه الى النوم، فاخذ هذا في التثاؤب، وافتعل النوم، بل انه راح يرسل شخيرا شديدا.. عندها فتح الغول عينيه، استل سكينه بسرعة وما ان رفعها ليغرسها في صدر مرافقه المهرب، حتى شعر بشيء يخترق اضلاعه.. وضع يده متحسسا هذا الشيء.. واندفع الدم متدفقا غزيرا من صدره.. غامت الدنيا في عيني الغول.. فبادره المهرب بطعنة اخرى.. واعتلاه.. موجها سكينه الى اذنه اليمنى بالضبط.. ومجتثا اياها من مكانها. وضع المهرب اذن الغول في فمه.. وفي منتصف الليل قذف بها قبالة مركز الشرطة.. ومضى مختفيا في ظلام الشارع.. والاشجار.