مَن سيعيد الاعتبار للشاعر؟ ناجي ظاهر
مَن سيعيد الاعتبار للشاعر؟
ناجي ظاهر
تحكي المجموعة الشعرية ” ملحمة الخلق”، للصديق الشاعر الراحل عدوان ماجد عنبتاوي ( 1948- 2018)، قصةَ حياته ومعاناته خلال السنوات الخمس لتألقه الشعري، من أواسط الستينيات إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وقد أصدر عدوان هذه المجموعة الشعرية بفرحة غامرة، وانصرف بعدها عن الشعر لمزاولة كتابة اللافتات لكلّ مَن طلبها آنذاك من أهالي الناصرة ومنطقتها، وقد حاول فيما بعد، العودة إلى انتاج الشعر إلا أنّ شيطانه استعصى عليه، فجاء ما كتبه ضعيفًا فجًا، خاويًا مِن حرارة التجربة التي عاشها إبان انتاجه ملحمة خلقه تلك، وكان أن عاودته أفراح الشعر في سنواته الاخيرة رغبة في مسايرة الموجة الشعرية المتصاعدة، فتوجّه إلى كتابة الشعر باللغة العبرية، وهو ما لم يلقَ قبولًا من أحد، وكاتب هذه السطور في مقدمتهم، فلماذا نحن نكتب الشعر للتباهي.. أم للعيش؟
يقول عنوان مجموعة ملحمة الخلق، مجمل ما أراد أن يقوله عدوان، فهو هنا يتحدّث عن ملحمة خلق تشبه إلى حدّ بعيد الاسطورة الدينية حول خلق العالم، وقد اختلطت في هذه المجموعة الشعرية الاولى وأكاد أقول الاخيرة لصاحبها، الاحاسيس والمشاعر الوطنية الجيّاشة بالأحاسيس الشخصية الذاتية الصرفة، الامر الذي قرّب صاحبها من فجيعته الذاتية التي سأتحدث عنها فيما يلي من سطور، فقد ولد عدوان عام النكبة وعاش لسعها الكاوي، أكثر من مرة، وذلك عندما قتل والده ماجد عنبتاوي في معركة الشجرة وهي المعركة التي قُتل فيها الشاعر عبد الرحيم محمود، صاحب القصيدة المشهورة” سأحمل روحي على راحتي والقي بها في مهاوي الردى/ فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا”، وتضمّنت حياة شاعرنا تفاصيلَ محزنةً جدًا كان كاتب هذه السطور شاهدًا على أطراف منها، وبما أنه يجد صعوبة في التحدّث عنها لخصوصيتها الشديدة، فإنه يكتفي بالإشارة إلى واحدة من نتائجها القاسية وهي أن عدوان اضطر بعد انهائه دراسته الثانوية للإقامة في غرفة وحيدة أجّره إياها الشاعر المرحوم إدمون شحادة تعاطفًا معه ومحبة له. تلت هذه الظروف القاسية ظروف أخرى أفضت لاعتقاله فترة من الزمن بدعوى اللقاء مع عميل أجنبي أو مُعادٍ في قبرص، وكان ذلك خلال دراسته في جامعة القدس العبرية، أما نتيجتها فقد تمثّلت في انصراف عدوان عن الدراسة والشعر، وفي انخراطه في الحياة العملية اليومية، رغبة منه في العيش بكرامة في عالم لا يرحم. لقد جرت بيني وبين عدوان خلال وجوده في السجن مكاتبات، أكدت مأساته الشخصية، وأذكر هنا أنه جمع هذه الرسائل وأعطاني نسخة منها لعلّنا نتمكن من إصدارها في كتاب خاص، غير أنها اختفت بين أوراقي الكثيرة، الامر الذي حال دون إصدارها في كتاب كما خطر له.
فيما يلي سأتابع قراءتي حياة عدوان عبر مجموعته الفريدة ” ملحمة الخلق”، بعدها سأقدم تلخصًا أعتقد أنه هو الدافع لكتابة هذه المقالة الاشارية.
كما ورد آنفًا حكى عدوان في ملحمته هذه قصته العامّة مازجًا إياها بروح من شعر بفجيعته الشخصية، وهناك مقطع شعري في هذه المجموعة يلخّص معاناته التاريخية الانسانية هو:
أحبيبتي
أمضيت عمري والهروب هو الهروب
أمضي فتخدعني الدروب
وأتوه في برد غضوب..
إنها الوحدة والنضال من أجل العيش والوجود، فهو كما يلحظ الاخ القارئ، يخاطب حبيبته المتخيّلة (عدوان بالمناسبة لم يدخل قفص الزوجية وبقي عزبًا طوال أيام حياته)، وها هو يشرح لها ما اوقرته الايام في قعر فنجان حياته يحدّثها عن الهروب وعن خداع الدروب له، كما يحدّثها عن المتاهة القاتلة التي وجد نفسه فيها مُرغمًا ودون إرادة له فيها أو شأن. إنها قصة الانسان ” الكافكاوي- نسبة إلى الكاتب التشيكي اليهودي فرانز كافكا)، ذلك الانسان الذي فتح عينيه ذات يقظة صباحية ليجد العالم وقد أطبق عليه فكّيه الحادين متسبّبًا في آلام لم يكن شريكًا فيها، بل لم يكن له يد في حدوثها المُرعب.
يقول عدوان:
عندما كان أحبائي عرايا
كنت ثوبًا مهملًا فوق الطريق
إنّه يحنّ إلى اولئك الناس الذين كانوا هنا، اولئك الاحباء الذين غالتهم يدُ البشر وتشرّدوا أيدي سبأ، وها هو يفتح دفتر فجيعته الشخصية ليخبرهم أنه لا حول ولا طول له فيما حدث لهم، وأنهم عندما كانوا عرايا، كان هو ثوبًا مهملًا فروق الطريق، يا الله ما اقسى هذا، ما اقسى ألا تكون وألا يكون أحباؤك إلا حلمًا ووهمًا، طائرًا مهيضَ الجناح وعاجزًا عن التحليق، وكلّ ما حولك يدعوك للرفرفة فوق شجرة الحياة حيث أنت واحباؤك. إنها صورة مؤسية الجميع فيها خاسر.
ثم يقول:
إنني خنت جميع الخائنين
فاذا ما متّ يومًا
فخذوا منهم بثأري..
في هذه الابيات نرى كيف تختلط الامور، فلا يرى الشاعر بارقة أمل، يسترشد بها في متاهته اللاهبة، وها هو يطلب من حبيبته، بل منهم جميعًا، من أحبائه، أن يأخذوا بثأره إذا ما مات يومًا، أما السبب فإنه يتمثّل في وفائه لأناه ولعالمه، وخيانته لجميع الخائنين، اولئك الذين اغتالوا حلمه واجهزوا على فرحه في ذروة نشوته.
في قصيدة أخرى، يتصوّر عدوان نفسه مي زيادة تتوجّه إلى حبيبها الافتراضي جبران خليل جبران، ذلك الشاعر الذي عاش في المهجر الامريكي في حين عاشت هي في المُغترب المصري، ولم يلتقِ الاثنان في حياتهما إلا على صفحات الرسائل المتبادلة التي تواصلت خلال حوالي العشرين عامًا.. دون لقاء واحد. وها هو يرتدي القناع الشعري ممثلًا بمي وهي تخاطب حبيبها المفتقد دائمًا وابدًا، يقول:
سأموت يا جبران قبل الخامسة
عدوان هنا يتنبأ بموته دون أن يحقّق أي شيء مما حلم به وأراده، وهو ما حصل له في النهاية ليقضي وحيدًا وأكاد أقول شريدًا، ولينطبق عليه ما قاله أبو الطيّب المتنبي وهو: بمَ التعلّل لا أهل ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن.
هكذا تتراكم الاحزان فلا يجد عدوان أمامه سوى أن يهتف بالجميع، من رأى ومن لم ير، قائلًا:
افتحوا الابواب
قلبي لا يحبّ الباب مغلق
كما يلاحظ الاخوة القراء، تمكّن عدوان في مجموعته الفريدة هذه، ملحمة الخلق، أن يمزج ما بين العام والشخصي فابتعد عن الايديولوجي واقترب من الشعر في فترة كان الشعر الايديولوجي هو السيد المُطلق في شعرنا العربي المحلي، أما السبب في هذا كما أرى فإنه يعود إلى أن عدوان أحبّ الشعر آنذاك حتى الفناء فيه فاطلع نماذج جامحة منه لدى العديد من شعراء تلك الفترة في مقدمتهم الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، وأدرك مُبكرًا أن الشعر إما أن يكون شعرًا او لا يكون.
في المجمل أقول إن عدوان كتب هذا كله وغيره خلال خمسة أعوام، قد تُذكّر بالتجربة الرائدة في الشعر الاجنبي لأحد رواد الحداثة في العالم وأقصد به الشاعر الفرنسي البارز آرثر رامبو، تلك التجربة التي لم يتجاوز عمرها عمر تجربة عدوان، وتمثّلت في مجموعة واحدة رائدة هي ” فصل في الجحيم”، أو أكثر قليلًا، تلك المجموعة التي كتبها قبل بلوغه العشرين من عمره وانصرف بعدها إلى شأنه الحياتي اليومي تاركًا الشعر لعشّاقه المُدنفين حبًا به وبخيراته. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل سيقيّض لملحمة الخلق العدوانية أن تكون موضع دراسة أحد باحثينا الاشاوس، لتعيد إليه الاعتبار بعد كلّ ما عاشه من الماسي والآلام؟