اضمن
اخبار محلية

من كتاب “فتنة الحاسّة السادسة- تأملات حول الصور” الصورة في سياق الحرب وتناسل الدلالة – فراس حج محمد| فلسطين

من كتاب “فتنة الحاسّة السادسة- تأملات حول الصور”

الصورة في سياق الحرب وتناسل الدلالة

فراس حج محمد| فلسطين

في عمل فني تشكيلي، قامت الفنانة الكورية الجنوبية (شين إيه كيم) بالاستفادة من لوحة القُبلة للفنان النمساوي غوستاف كلمينت، بإعادة رسم اللوحة بملامح عربية، معتمدة على التراث، فكان هناك لوحة زي فلسطيني، ولبناني، وعراقي، وعماني، ويعيد هذا العمل الفني طرح أسئلة حول الإبداع والتأثر والتأثير، وربما يصلح أن يُطبّق عليه مفهوم التناص؛ إذ تحيل هذه اللوحات ذهن القارئ إلى اللوحة الأصل. فـ “الإنتاج الفني ليس وليد رؤية الفنان، ولكنه محصلة النصوص الأخرى” و”تستدعي ظاهرة التناص بالفعل سيميائيات (أى خطابات) مستقلة تتواصل داخلها سياقات البناء، إعادة الإنتاج، وتحويل النماذج”[1].

وإذا كان التناص، يبحث في الكشف عن حضور نص سابق في نصّ جديد، فإن اللوحة بمفهومها العام، فإنها نصّ، لأنها تحمل فكرة، وخطاباً معيناً، ويمكن للرائي أو الناقد أن يقرأ تلك اللوحة، لكنها لا تقرأ بعيداً عن اللوحة الأصل في مثل هذه الحالة، فينطبق عليها مفهوم المعارضات، تلك التي كانت تتفق فيها قصيدتان في الموضوع والوزن والقافية وبعض المضامين، وهذا ما حدث في هذه اللوحات التي تلوّنت بألوان عربية محلية تعتمد على عناصر التراث في الشكل الخارجي لعناصر اللوحة مع احتفاظ اللوحة بتلك الكيفية التي يظهر فيها الرجل والمرأة في اللوحة الأصلية، وكيفية انطباع القبلة على وجه المرأة، وظلت اللوحة المنتجة محافظة على تلك الأطر التي تحكم تلك الرؤية للفنان الأصلي التي أودعها في لوحته لتعبر عن معنى إنسانيّ عام. وبمفهوم التحليل السيميائي فإن الفنانة الجديدة قامت بعملية “تثبيت تاريخي”، لأنها حافظت على “تلك الإشارات الفضائية والزمنية داخل الخطاب، ترمي إلى تشكيل صورة للمرجع الخارجي، وإنتاج أثر معنى “الواقع”[2].

وفي قراءة للوحة الأصلية قدمتها الكاتبة اللبنانية مادونا عسكر أشارت إلى “اتحاد البصري والذهني في تجسيد الجمال الإنساني”[3]، تقدم الكاتبة وجهة نظرها في اللوحة: “قد تكون القبلة محور اللّوحة إلّا أنّ هذه القبلة عنوان للاتّحاد التّام بين الرّجل والمرأة، العاشقين الملتحمين حبّاً وعشقاً. وهي قبلة مقدّسة دلّت عليها وضعيّة الرّجل والمرأة معاً. كما رمزت إليها الحركة الهادئة بين العاشق والمعشوقة. وهي مقدّسة لأنّها تصوّر اتّحاداً روحيّاً لا جسديّاً وحسب، ويظهر ذلك من خلال تفاصيل الجسدين الغائبة نسبيّاً، إلّا ممّا يدلّ على تمايز الشّخصيّتين حتّى لا يبدوَ الاتّحاد الرّوحيّ كذوبان الواحد في الآخر، فتمّحي شخصيّة الواحد دون الآخر”. يشكل هذا المقطع تفسيراً للعناصر الظاهرة للوحة، بل أبعد من ذلك لتغوص في الأعماق. هذا المعنى هو الذي دفع ربما الفنانة الكورية الجنوبية أن تستعيد اللوحة بعد أكثر من مائة وستة عشر عاماً من رسمها، لتقول من خلالها رسائل حب، وطنية، على مستوى الشعب الواحد.

هذه أيضاً إضافة جديدة على اللوحة، فاللوحة الأصلية لها سمات عامة، غير محددة ببلد أو ثقافة أو دين، كما أشارت الكاتبة عسكر في مقالها نفسه، أما الأعمال الجديدة فهي ترتبط بتراث البلد وثقافته التي تظهر في اللباس فقط، فيبقى الحبّ وأيقونته التي تشير إليها القبلة إنسانية عامة، والتطبيق- إن جاز هذا التفسير- عربيا؛ فلسطينيا أو عُمانيا أو غير ذلك، وبهذا المفهوم تحمل هذه اللوحات رسائل خاصة جديدة، بعد أن توطّنت في بلاد العرب، وصار لها مظهر خارجي متحد مع المظهر العام، فيتحد الإنساني مع المحلي، ليشير إلى عالميته وإنسانيته أيضاً، فكأنّ هذا العمل شبيه بالترجمة التي تأخذ بعين الاعتبار مصطلحات الثقافة الجديدة، أو اللغة الجديدة، سواء في التعريب كما كان يفعل أحمد حسن الزيات، أو الترجمة إلى العامية، بمعنى يشبه نصا أجنبيا مترجما باللغة المحكية لبلد ما، فيكتسب النص توطينا بسبب اللغة التي هي شكل الكلام وحامل المعنى، كما فعل مثلا المترجم مجدي عبد الهادي فنقل رواية إرنست همنغواي “الشيخ والبحر” إلى العامية المصرية[4]. لكن الأفكار تظل تحيل إلى ذلك النص القديم الذي لن ينسى أبداً.

كانت النسخة الفلسطينية من اللوحة هي أول عمل من هذه السلسلة، وتبدي الفنانة (شين إيه كيم) من خلال هذه اللوحة تعاطفها مع الفلسطينيين، تقول بهذا الخصوص: “حاولت أن أعبّر بصدق عن معاناتهم وآمالهم من خلال عملي”.

إنه عمل يحمل رسالة سياسية، وليس فقط رسالة إنسانية أو فلسطنة لوحة عالمية، لقد أبرزت اللوحة الكثير من عناصر التراث الفلسطيني المرتبط بالزي: فالرجل في اللوحة يرتدي الحطة الفلسطينية (الكوفية) والعقال، والمرأة تلبس الثوب الفلسطيني التقليدي الطويل، بالإضافة إلى سنبلة ووردة وقلب حب يخرج منه خط باللون الأحمر يلفّ الجسدين معاً.

ويظهر البياض في اللوحة ناصعاً بالطرف المقابل، إما أنه يشير إلى نوع آخر من اللباس التقليدي، إذ إن هناك عدة ألوان للباس الفلسطيني التقليدي، وإما أن تكون مساحة من النقاء والتماهي تشبه حالة الاندماج الموجودة في اللوحة الأصلية وأشارت إليها الكاتبة مادونا عسكر في قراءتها التي ينمحي فيها تفاصيل الجسدين، ليغطيهما البياض المطلق، فهل رمزت الفنانة إلى الموت بهذا اللون، على اعتبار أن القتلى الفلسطينيين الذين يتعرضون دائما إلى التعذيب والقتل يكفّنون بأكفان بيضاء منسدلة. أظنّ أن هذا التفسير ليس بعيدا على اعتبار المنطقية أو الدافع الذي دفع الفنانة لرسم هذه اللوحة لتدل على المفاهيم السياسية المرتبطة بالمعاناة؛ ففي هذه اللوحة إذاً تتجاور عناصر الهوية للشعب الفلسطيني عبر تلك الرموز، وعناصر المعاناة التي يشير إليها الموت بلونه الأبيض.

ولكن ماذا عن اللون الأبيض في الثقافة الكورية؟ يعدّ هذا اللون أحد الألوان الخمسة التي تشكل نظرية (أوه بامج سيك) ويقع الأبيض ثالث هذه الألوان متوسطا الأصفر والأزرق، ثم الأحمر والأسود، ويرمز هذا اللون إلى “الأجداد حيث كان يُدعى الكوريون قديماً بالأمّة البيضاء نظراً لاستخدام اللون الأبيض للملابس، ويعد رمزاً للنقاء والبراءة والحياة”[5]. فهل زاوجت الفنانة بين الدلالتين؟ على الرغم من أن دلالة الأبيض على الموت ليست قاطعة، إنما قد تكون دلالته على النقاء والبراءة، أو الأصالة التاريخية التي تشير إلى الأجداد أقرب مأخذاً؛ نظرا للهدف من الرسم نفسه.

كما تخلّت الفنانة الكورية عن حالة التماهي بين الجسدين في أسفل اللوحة الأصلية، لتُظهر بدلا من ذلك قدمي الفتاة، وتُظهر معهما جزءاً من الساقين وهما عاريتان، بوضعية مرتاحة على أرضية خضراء، مزروعة بالورود، تجثو على ركبتيها، ويبقى جسمها مشدودا للأعلى من أجل إحداث فعل القبلة.

ومهما يكن من أمر التفسير الجزئي لبعض عناصر هذا العمل الفني، إلا أنه يفتح الباب واسعا لأعمال مشابهة ومشاريع تستفيد من الأعمال الفنية العالمية، كما في لوحة الغورنيكا لبيكاسو، ولوحة العشاء الأخير، والموناليزا لليوناردو دا فينشي، ولوحة انطباع، شروق الشمس لكلود مونيه، وغيرها الكثير، على غرار ما يفعل الكتّاب بالتناص أو بناء أعمال أدبية باستلهامهم أعمال وليام شكسبير وصموئيل بكيت وفولتير أو الحلاج، وغيرهم أيضاً الكثير، إذ لا بد من أن تكون هناك عناصر جديدة تحمل رسائل خاصة، وإن بنيت على هدْي من أعمال أخرى، لكنها لن تظل أسيرة الرؤية الأولى، ولا بد من معنى جديد مرتبط بالواقع.

وتجدر الإشارة إلى أمر آخر مهم في هذه اللوحة؛ الفلسطينية، وبعض اللوحات الأخرى، أن الفنانة الكورية الجنوبية أسبغت على اللوحة تلك اللمسة الكورية التي ألاحظها في الأعمال الفنية للفنانين الكوريين، المتمثلة في هذه الورود التي تنثرها الفنانة في أرضية اللوحة مختلفة عن تلك الورود في اللوحة الأصلية، فظهرت أكثر قربا للرائي وأكثر وضوحا في أنواعها وأشكالها وحجمها وألوانها.

من جانب آخر، يشير هذا الاهتمام إلى حضور اللون والفرشاة في سياق الحرب والتعاطف السياسي، ويكمل مهمته مع الصور الفوتوغرافية الملتقطة من قلب الجحيم في غزة منذ عام وفي بيروت مؤخراً، فثمة أشياء أخرى تقولها هذه الصور.

في الحرب تأخذ الصورة طابعا ملحمياً، رمزياً، بعيدا عن فبركة الصور وإعادة تركيبها. الحرب الأخيرة بكل تنوعاتها وجبهاتها، أخذت الصورة فيها بعدا جماليا كبير الدلالة، صور الاشتباك من نقطة صفر، صور المقاومين، صورة الناطق الرسمي، الرجل الملثم، صورة المقاتل الأنيق، صورة المقاوم الساجد، صورة المقاوم القافز في الهواء فرحا بما يصنع، صور السيّد الشهيد، وغير ذلك الكثير.

بمقابل هذه الصور ثمة أخرى للتدمير والاستيلاء على الأماكن، والغزاة وهم في البيوت، راقصين، فرحين. ربما هذه أكثر حربٍ تلعب فيها الصور هذا الدور. صور ترسم المعنى، وتقول أبعد مما يقول الكلام، إذاً يحضر الفعل والفعل المضاد بالرسم، فصار الرسم أهم من الاسم، لا كما فهمت من المثل الذي كان أبي يردده “إن غاب اسمي هاي رسمي”، أو ما تحاول الفلسفة أن تقوله.

لا أدري كيف تكون الحياة دون أن تكون هناك صور تؤطّر معانيها، بالفعل؛ إن الرسم أهم من الاسم- كما هي قناعة أبي رحمه الله- يبلى الاسم/ الشخص/ الشيء/ الحدث وتبقى الصورة/ الرسم دليلا أبديا على كل ذلك، ولولا هذا المعنى ما كنا- أنا وغيري- قد تعلقنا بالصور بمعناها العام، وليس بمعناها المحدود المستقر في أذهاننا، بدءا من الأحلام التي هي صور لصور ذهنية مشتهاة، وانتهاء بصور الراحلين من الأعزاء والشهداء والغائبين وأسرى الحروب.

هل فكّر أحد لماذا تضع أم الأسير أو زوجته مثلا صورة الأسير على مائدة الطعام في رمضان أو في المناسبات الاجتماعية؟ إنها تحرره من أسره ليكون معها بالصورة والرسم، كأن الرسم دليل التعالي على الواقع المر والاستهزاء به وقهره، ولذلك فإن الطغاة على مر العصور يحاربون الصور والأيقونات بكل ما أوتوا من قدرة وقوة، برسوم وأيقونات مضادة. الصورة علامة على الحضارة بكل ما فيها من معانٍ مجردة لا يمكن إلا أن توجد لها صورة لتكون أكثر تحققا بين الناس. ففي كل مرة يكون الرسم علامة على الوجود وإن غاب الاسم، التاريخ يقول إن الصورة أسبق من كليهما: المعنى والكتابة.

الصورة/ الرسم ركن أساسي في مشروع صديقي حسن عبادي في تواصله مع الأسرى، يزورهم، وعقب كل زيارة يقدم الصورة الغائبة في المعتقل رسما كتابيا مرفقا بصورة للأسير أو للأسيرة، حسن يريد أن يؤكد أن الأسير إنسان ذو حكاية وصورة وبالطبع اسم، لكنه لا يريد أن يكون اسما مجرّداً من الملامح المحددة. يختار حسن صوره بعناية لتدل على ما يريد، وبهذا صار الرسم/ الصورة ذا دلالة سياسية وإنسانية أيضا.

بالمقابل، وعلى الزاوية الأخرى الأكثر ألماً، فإن “المشروع الوطني” الفلسطيني يهتم بصورة الوطن أكثر من الوطن نفسه، الواقع يقول ذلك في كل شيء، فالوطن مرسوم على الورق في الشعر والرواية والخرائط واللوحات والبوسترات، والصور البلهاء للزعماء، ولكنه لم يخرج إلى الواقع؛ ظل هناك حبيساً، ليغدوَ الرسم أهم من الاسم/ الوطن، بدلالة سلبية.

وفي مشهد قاسٍ، يجسّده الروائي أكرم مسلم في روايته “بنت من شاتيلا” عن شهيد فقد اسمه نتيجة رصاصة، إلا أنه تحول إلى ملصق/ صورة لتوزع في الحي. يكتب أكرم: “كان قد أخذ صورته الوحيدة إلى صاحب مطبعة، وطلب منه أن يطبع منها ما يملأ الحقيبة ملصقات بالأبيض والأسود”[6].

ويعود أكرم مسلم إلى تجسيد معاناة الزوجة التي يغيب عن زوجها، ولم يبق لها منه سوى صوره. “عندما تزوجت غلّفت الصورة جيدا وحفظتها، ها هي الآن تحتضنه بحبّ شديد، تطل عليه من مرآتها تضع الصورة على نهديها المتهدلين وتحدق في المرآة، عجوز تحمل صورة بالأبيض والأسود لفتى وسيم في الثامنة عشرة، هي في عمر الجدات، وهو في إطار ابن أو حفيد، ظل هناك وهي أصبحت هنا”[7].

هذا المشهد يحدث مفارقة زمنية هائلة الدلالة؛ إذ تؤشّر الصورة إلى توقف الزمن عند لحظة التقاط الصورة، بينما في الحقيقة زمن مستمر لا يرحم، بان أثره في العجوز. هذا ما تفعله صور الراحلين، حنين لا يهدأ، ويرسخ صورة الراحل عند نقطة ما، لن تتغير في عقل الطرف الآخر ووجدانه.

يبدو أنه لا أحد يستطيع أن يتخلى عن الصورة، رحم الله أبي، لقد كان يدرك كل ذلك وأكثر.

الهوامش:

[1] قاموس مصطلحات التحليل السيميائي، للنصوص، رشيد بن مالك، دار الحكمة (د. م)، 2000، ص 93.

[2] السابق، ص 20.

[3] ينظر المقال في موقع واحة الفكر: https://2u.pw/3sGUatJy.

[4] ينظر: السعيد، أسامة، ترجمة رواية هيمنغواي “العجوز والبحر” إلى العامية المصرية تثير جدلاً، موقع صحيفة الشرق الأوسط، 7/1/2023: https://2u.pw/6tmjPYab.

[5] موقع كوريا نت، الألوان الكورية التقليدية الخمسة “أوه بانج سيك” سحر الجمال الكوري، مادونا يوسف، بتاريخ: 22/12/2020: https://2u.pw/2Ux1d2zL.

[6] صدرت الرواية عن دار الأهلية، عمّان، 2019، ص 90.

[7] بنت من شاتيلا، ص 96.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock