متنفَّس عبرَ القضبان (69) حسن عبادي/ حيفا
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة بعد كلّ زيارة؛
عقّبت الصديقة أم محمد عواد: “وليس السجن إلا دِيارُ واقفاص الأسود صبراً يا معتقل فكلما طال البقاء قرب اللقاء فك الله بلعز أسرك يا نورهان. يسعد صباحك يا استاذ وبوركت جهودك. ”
وعقّبت الصديقة زهرة محمد من الشتات: “الحرية لها ولكل الماجدات والفرسان، يا رب كم هو محزن أن نجد النساء والفتيات، يناضلن بصمت، بينما غيرهن يناضل بالشعارات، والتزلف، والنفاق، على الشاشات !!
الحرية لها ولكل الماجدات والفرسان ، يا رب ( شو يعني ارتاح ) …تكفي هذه الجملة ، لصب اللعنات على عالمنا القذر، وعلى أدعياء الوطنية”.
“المهم يحرّروا الجثمان“
التقيت صباح الأربعاء 21 كانون أول 2022 في سجن الدامون، قلعة في أعالي الكرمل السليب، بالأسيرة نورهان إبراهيم خضر عواد (مواليد 1999 ومعتقلة منذ 23.11.2015!!) وبادرت تحتلنني بمراسيم العزاء باستشهاد الأسير ناصر أبو حميد، باغتهن البارحة ضابط المخابرات في العدد الصباحي: “افتحوا التلفزيون، ناصر مات!”.
أعدن الثلاث وجبات اليومية، مش طالعات ع الساحة ثلاثة أيام، وسيكون العزاء في المكتبة، تابعن التلفزيون و”المهم يحرّروا الجثمان”.
حدّثتني عن 4 حالات نفسيّة مهملة وبحاجة ماسة لعلاج (أزهار، نهاية، نوال وفدوى) وهذا كان سبب الإضراب عن الطعام (برفقة ميسون وشروق) والخطوات الاحتجاجيّة الجماعيّة: ترجيع وجبات، عدم الوقوف ع العدد، تسكير القسم وغيرها ووعدوا بالحل القريب.
عبّرت عن فرحتها لإتمام الجامعة وبانتظار التخرّج.
نورهان تنمّي مواهب الطهي وصناعة الكعك مع المواد المُتاحة، غاب “بسكوت الشاي” لأشهر فاستبدلته بال”نشنشيم” المطحونة والخبز المقطع (تنشّفه وتطحنه) لكعكة الجزر الخُرافية، وتناولنا مشروع كتاب الطبيخ في السجن (عبد الكريم يطبخ، نورهان مختصّة بالكعك والتحالي ومنى بالمكابيس).
ضحكتها الطفولية عالقة وملازمة لها، تصوّر لي طقس القهوة الصباحيّة (من إيدين عائشة)، غذاء الثالثة وشاي الخامسة عصرًا بالنعناع.
شرحت لي عن التمرّد الأمني، دقّ الشبابيك والجدران والمردوان، لتقول بعفويّة خجولة “بنشوفك ع التلفزيون” لتحدثّني عن أدب السجون والحريّة وحلمها بالمشاركة بحفل إشهار كتاب لها فيه نصيب.
” ما أشبه اليوم بالأمس!“
بعد لقائي بنورهان أطلّت عليّ الأسيرة ميسون موسى محمود الجبالي (عميدة الأسيرات في سجون الاحتلال، معتقلة منذ يوم 29.06.2015) مبتسمة؛ لتحدّثني بدايةً عن وفاة الأسير ناصر أبو حميد (عشية لقاؤنا السابق كان غداة وفاة الأسيرة سعدية فرج الله “مطر”) -ضحيّة الإهمال الطبّي المتعمّد من قبل سلطة السجون القمعيّة، وحتلنتي بمراسيم العزاء داخل السجن؛ تحضير تمر وميّة من الكانتين لتوزّع على روحه، ختمة القرآن وصلاة الغائب ظهر اليوم في المكتبة التي تديرها في الدامون. ما أشبه اليوم بالأمس!
حتلنتي مطوّلًا عن مطلب الأسيرات بقسم خاص للحالات النفسيّة، مطلب الساعة، وفجأة تتوقّف قائلة: “بدنا نروّح وبدناش عمادة أسيرات!”.
حدّثتني عن تقدّم التعليم الجامعي، “خلّصنا بحث الجامعة وظلّ علينا نبيّضه”. مصطلحات نسمعها فقط في السجن في عصر الحاسوب! ويعود الفضل لخالدة ومنى مشكورات.
تناولنا مستجدّات تجربتها الكتابيّة، تابعت كتابتي للملاحظات قائلة بعفويّة: “خطّي زبالة بس مش مثل خطَّك!”. الله يسامحك يا ميسون.
“لوينتا!”
بُعيد لقائي بنورهان وميسون، أطلّت الأسيرة المقدسيّة شروق صلاح دويات، ضاحكة ضحكة واثقة، نقلت لي سلامات زميلاتها، وبادرت تحدّثني عن فترة الإضراب ومستجدّاته.
استفسرت عن كتاب “القديس والخطيئة” للأسير خليل أبو عرام، لتقول أنّ الأسير ليس بقدّيس، مجرّد إنسان وكلّنا خطاؤون. وسألتني إذا الياسمينة ما زالت تنتظرها؟
كان الشهيد ناصر أبو حميد حاضرًا معنا، رغم أنّ الأمر كان متوقعًا إلّا أنّه صعب. وجه العائلة بحكي الوجع!! الوجع يرتسم على الوجه، فش حكي ينحكى. شو يعني ارتاح؟ لوينتا؟!؟ طلبت إيصال تعازيها وتعازي زميلاتها في الدامون لوالدة ناصر وللعائلة. صارخة: “حرّروا الجثمان!”
خبّرتني عن الأمل بترويحة قريبة، “بصيص الأمل بعيّشنا. الأمل غذاء الروح”.
حدّثني بلهفة عن التعليم الجامعي ومشروع التخرّج، وفكرة بحثيّة حول “تأثير المدرسة على الوعي الوطني” خاصّة في القدس ووعدتها بالتشبيك مع الروائية المقدسية ديمة جمعة السمان التي تناولت هذا الموضوع الشائك.
ويبقى سجن الدامون النقطة السوداء في حيفا ومحيطها.
تواعدنا أن تكون يوم الترويحة في ضيافتنا في حيفا مع أكلة سمك على شطّ بحر حيفا. اعذرينا يا أم شروق.
لكن عزيزاتي نورهان وميسون وشروق كل التحايا، والحريّة القريبة لكُن ولجميع أسرى الحريّة.
حيفا/ كانون أول 2022