قصة قصيرة على الطريق بقلم: فهيم أبو ركن – عسفيا – حيفا
شاعر وكاتب فلسطيني
تنزلقُ السيارةُ على الإسفلت، نحن بداخلها نجلس جنبا إلى جنب، غريبة وغريب.
المطر ينهمر في الخارج، تخرج ذاتي مترنحة مع حلقات الدخان التي تنفثها من سيجارتك، وتحلق حولك.
أنا وحدي في هذا الخضم، وأنت وحدك.
أنا وأنت … لا أدري ما هي الأفكار التي تحوم في رأسك، وتشغل فكرك! بل إني لا أكاد أتبين أفكاري..!
عندما نظرت إلى عينيكَ وأنا ادخل السيارة، أحسست أني على حافة هوة عميقة … شعرت بكياني يذوب، يصبح خارج العالم كله، أردت أن أتمرد عليك وعلى نفسي!
أما أنتَ فكنت ساهما تبحث عن شيء في الفضاء، إني أتذكر أنك نظرت إليَّ نظرة خاطفة كأني أزعجتك بدخولي، عندئذ شعرتُ بكل أحاسيسي تنفر منك..تكرهك. لو كنت تعلم ما ينتظرني لما نظرت إليّ إلا بحنان ورقة، بدل نظراتك الجامدة وصمتك المطبق.
أنا لا أريد أن أزعجك. إني مسافرة مثلما أنت مسافر. لم يدُرْ بخلدي أني سأقابلك أيها الغريب، فهل دار بخلدك أنك ستقابلني؟.. عفوا.. نسيتُ أنك لا تفكر بي… أظن أنك لا تشعر بوجودي، ولماذا تشعر بوجودي وقد تعودتَ ألا تشعر إلا بنفسك؟!
أنت بعيد عني! إننا نجلسُ على نفسِ المقعد، في ذات السيارة، لكنَّ أسواراً وحواجز تفصِلُنا، تبعدنا… أنا لي عالمي الذي أعيشُ فيه، وأنت لك عالمك الخاص، ومع هذا فها نحن نجلسُ متجاورَين… نتنفسُ نفسَ الهواء، ننظرُ إلى نفسِ المطر.
الريحُ في الخارجِ تُقَاوِمُ انْدِفَاعَ السَّيارة. ماسحتا الزجاج الأماميّ ترقصان برتابة، وأنا أشعر بأنفاسِكَ الحارَّة، أطلُّ على عالمك الصامت من عالمي الأخرس! صدرُك يعلو ويهبط بضيق، السيجارة قاربت على الانتهاء، تمد يدَك لتطفئَ السِّيجارة في المنفضة، تلمسُ يدُك يدي، دونَ قصدٍ منك .. أو مني، تشتعلُ جمرات على جلدي وتسري في كياني.
قطراتُ الماءِ تتسابقُ إلى أسفل على النافذة الجانبية للسيارة، تتعانق … تتمازج… أراها الآن وأنا أنظر عبر الزجاج. لقد خشيت أن ترى حمرة وجهي فأشحت به عنك. لا أريد أن أرى عينيك مرة أخرى! لا أريد أن ترى نظراتي الحائرة… أن تكشف سري، أن تقول عني… أنا… هذه الفتاة الجميلة..!
منذ أن لمسَتْ يدُك يدي زالَ نفوري منك، أراكَ تجذبُ أفكاري فأكاد أنسى نفسي! ليتني أكون هذه الساعة التي تحتضن زندك الأسمر، وتنبض مع خفقات قلبك…. ربطة عنقك أشعر أني أحسدها…
صوت العجلات يمزقني، إني مثلك من لحم ودم. البرد يتسلل إلى مفاصلي وأنت جالس بجانبي، غريب تفكر بصمت.. وبعمق، فلا ترى شيئا، أو ترى أشياء كثيرة.. فلا تعرف شيئا، أو تعرف أشياء كثيرة.. فلا تفهم شيئا، أو تفهم أشياء كثيرة… فلا تتعمق في فهمها، أو تتعمق أكثر مما يجب فتعود من حيث بدأت.
ربما ستقول عني مجنونة لو قلت لك هذا الكلام، لكنك ستدرك في أعماقك أنه على كل من يرغب في العيش بسعادة أن يكون مجنونا!!
تخفف السيارة من سرعتها، يختفي رذاذ الماء المتطاير من تحت العجلات.. تنعطف السيارة قليلا … تميل، يلمس كتفك كتفي، أود لو أحتضنك وأضيع في أعماقك أو تضيع في أعماقي.
الزمن يمر بسرعة، بدأت أخاف فراقك، لكن من أنت حتى أخاف فراقك؟ لم أرك إلا قبل بضع دقائق، ما زلت أجهل اسمك… وأنت أتعرف اسمي؟ أنظر! إنه مكتوب على حقيبتي السوداء، لكن ماذا سيضيف عِرفانك لاسمي؟ ستبقى صامتا، وسأبقى أنا جندية غامضة أدخل معارك ضد مجهولين، وفجأة لا أجد في الميدان سوى…أنا.
يكف المطر عن الانهمار.
الطريق ما زالت تتلوى تحت العجلات …
شعور غريب يدفعني كي أدخل إليك، إلى أعمق نقطة فيك.
أمواج أنفاسك تبتلعني.. تحاصرني بمنطقة مغناطيسية حارة، يلهث قلبي باضطراب، افقد كل إحساس بنفسي! مشاعري تبلدت من ضجيج أفكاري الخرساء، كمشاعر جندي وجد نفسه وحيدا عاريا وسط انفجار القنابل وأزيز الطائرات.
امتداد الطريق ينتصر على الضباب الخفيف الذي بدأ ينقشع الآن فيظهر بين التلال الخضراء. يتساقط المطر متقطعا، الريح تشتد وتعوي.
تتململ، تلف المعطف بعناية حول صدرك ورقبتك، ثم تمد يدك… تنظر إلى الساعة وتعود إلى سكونك وصمتك. لماذا لا تضمني إليك؟! أريد أن أرتاح قليلا، ليتك تتحرك وتحملني بين ذراعيك!
أنظر إلى الخارج، الصنوبر على جانبي الطريق يقاوم الريح بعناد… صورتك تقاوم إرادتي، وجهك يشدني إليك بغرابة، عيناك، أنفك، كل شيء فيك يجذبني بقوة. من أنت؟ من أي عالم أتيت؟؟ أود لو أسألك! رقبتي مشلولة لا تدير رأسي إليك، لساني متجمد في حلقي لا يسعفني كي أحادثك! كلمات كثيرة خطرت لي ولم أستطع أن أقولها لك…
الرياح العاصفة تبعثر الغيوم، تظهر قطع زرقاء صافية من السماء.
ها نحن نقترب من المحطة. سنفترق كما التقينا، غريب وغريبة!…
عواطفي تتكاثف، شعور من الحزن يحاصرني، لن أراك ثانية أيها الغريب! ستذهب.. وفورا ستنسى أنك شغلت فكري. إحساس عات غامض يدفعني لأصرخ… لأتثبت بك! الألم يفعم قلبي، يخنقني، يغرق أعضائي بسكون متواصل… أبقى جامدة لا أفعل شيئا!
تبدأ السيارة تخفف من سرعتها، تنظر إلي… تستحثني لأفتح الباب فور وقوف السيارة. أنظر إليك بخوف واستسلام… تتلاقى نظراتنا، أخفض عيني فأرى يدك تمسك بممطرة. أشعر بسلاسل تشدني إلى المقعد.
تقف السيارة. أبتلع ريقي بصعوبة، تتوهج وجنتاي بحرارة عميقة… أختطف نظرة إليك… تتلاقى نظراتنا مرة أخرى.
أفتح الباب وأخرج، تخرج أنت وتسير خلفي. يواصل المطر بالانهمار خفيفا…. أنظر حولي ثم إليك… تقترب مني، تفتح الممطرة، نسير مرة أخرى جنبا إلى جنب بصمت غامض. اشعر أننا من عالم واحد، أنظر إليك كالبلهاء، أجد في عينيك نظرات غريبة. تنقشع بعض الغيوم، تتسلل أشعة خفيفة من شمس آذار فتنير ملامح وجهك التي تذكرني بأشياء كثيرة..
قلبي يخفق باضطراب… أحاول أن أغير طريقي، لكني لا أشعر إلا وأنا أسير معك، وظلانا يبللهما المطر.
من المجموعة القصصية: “رحلة إلى الأعماق“