قصة قصيرة: الطفل الذي أحرج المعلم ميسون أسدي
قصة قصيرة:
الطفل الذي أحرج المعلم
ميسون أسدي
المعلم فضيل، شاب في منتصف العشرينات. نشأ وترعرع في قرية جليلية في شمال فلسطين، يقيم في غرفة استأجرها في المدينة التي انتسب إلى سلك التعليم فيها. رغم أن والديه مقتدران ماديًا ويعيشان في بحبوبة، إلا أنّه قرّر الاعتماد على نفسه منذ خروجه لدراسته الاكاديمية. عمل طوال الوقت وصرف على تعليمه من عمله. درس اللغة العربيّة وتميز بها، أصبح بعد ذلك مدرّسًا وبقي على عصاميته.
لم يكن الوضع في المدينة سهلا عليه، فأجرة الغرفة ومعيشته تستحوذان على قسط كبير من راتبه. كان يوفّر النزر القليل من الراتب، لذلك كان يحافظ على ملابسه أطول مدّة، حتّى لا يضطرّ لشراء ملابس جديدة. انتبه لذلك صديقه مازن الذي يعمل معه مدرّسًا في نفس المدرسة، فسأله: لماذا لا تأخذ الدعم المادي من والديك؟
فأجابه فضيل: أنا لا أريد الاعتماد عليهم، سأفعل كما فعلا وأشق طريقي بنفسي.
عندها قال له مازن: اسمع يا فضيل انت من القليلين الذين يبرعون في اللغة العربيّة ولك أسلوب مميّز في تدريسها، وكما ترى معظم الطلاب يرسبون في هذا الموضوع، ممّا يمنعهم من الحصول على شهادة انهاء الثانوية، فما رأيك ان تعطي دروسًا خصوصية للطلاب المحتاجين. وهم كثر، وتحصل على راتب اضافي ويتحسن وضعك الاقتصادي.
أعجب فضيل بالفكرة وسأله: أين أجد هؤلاء الطلاب؟
فأجابه مازن: لا تهكل هم، فأنا أدرّس الرياضيات للعديد من الطلاب وسأجلب لك قائمة بأسماء الطلاب الذين يهتمّ اهلهم بتقويتهم باللغة العربية.
وهكذا كان…
***
ارتدى فضيل ملابس نظيفة مرتبة ومكوية، لكنها لا تتناسب مع الموضة، حاملا حقيبته ومتّجه سيرًا إلى منزل الطالب الذي ينوي أن يعطيه أول درس خصوصي في اللغة العربية. مشى طويلا إلى أن وصل إلى حي راقٍ. الشوارع نظيفة والهدوء يسود الأجواء. أخذ يبحث عن البيت المقصود، وفجأة، وهو سارح في أفكاره، تلقى ضربة في رجله من علبة فارغة للمشروبات الغازية. توقف ليرى مصدر العلبة، فرأى طفلا يجري نحوه ويتناول العلبة ويركلها ثانية…
صرخ المعلم على الطفل قائلا: يا ولد، لماذا تركل العلبة هكذا؟
توقف الطفل ونظر نحو المعلم قائلا: لقد اجبت على السؤال بسؤالك!
استغرب المعلم من ذلك الجواب الذي لم يتوقعه والصادر عن طفل بعمره وقال متصنّعًا الهدوء: ماذا تقصد؟
الطفل: ماذا سألتني؟
المعلم: سالتك لماذا ركلت العلبة؟
الطفل: لا، لم يكن هذا ما قلته حرفيًّا…
عقد المعلم حاجبيه وفكر بما قاله حرفيا، ثمّ قال بنفاذ صبر: قلت لك “يا ولد لماذا تركل العلبة هكذا؟”.
الطفل: هل رأيت؟ قلت يا ولد…
فضيل: ماذا تريدني أن أقول؟ فانت ولد صغير…
الطفل: صحيح، أنا ولد صغير ولأنني ولد صغير، أركل العلبة كما يفعل الصغار، ولو كنت في سنك، لما فعلت ذلك.
صدم المعلم من تلك الاجابة المنطقية جدًّا، وحتّى يداري ارتباكه سأله: هل انت من هذا الحي؟
الطفل: طبعًا… هل تريدني أن آخذ علبة فارغة واركلها في حيّ آخر؟
ابتلع المعلم ريقه وقال: هل تعرف أين يسكن الطبيب أبو جعفر؟
الطفل: نعم، هل تريدني أن أدلك عليه؟ اتبعني…
تبعه الاستاذ حتّى وصلا إلى بناية فاخرة وأشار الطفل إلى تلك البناية وقال: الطبيب ابو جعفر يسكن في الدور الثاني…
ثم أردف: ماذا تريد من الطبيب؟
المعلم: ذلك لا يهمك، فهذا أمر بيني وبينه…
الطفل: هل أنت مريض وبحاجة إلى استشارة طبية؟
المعلم: لا، لا… الأمر يخص ابنه جعفر. وهذا لا يهمك، شكرًا لك، اذهب في سبيلك…
الطفل: كيف لا يهمني؟
المعلم: وكيف يهمك؟
الطفل: انا جعفر ابن الطبيب…
تلبك المعلم ولم يعرف بما يجيب، وحتّى يخرج من ذلك المأزق قال باستياء:
ألا تدري يا جعفر أنّك ستتلقى درسًا خصوصيًا في اللغة العربية اليوم؟
الطفل: أعلم ذلك.
المعلم: إذا كنت تعلم، لماذا تتسكع في الشارع وتركل العلب الفارغة؟
الطفل: موعد الدرس الساعة الخامسة وهناك عشرون دقيقة حتى الخامسة. لقد حضرت مبكرًا أيها المعلم. لكن لا تهكل هم تفضل إلى البيت واجلس مع والدي حتّى أبدّل ملابسي.
دخلا إلى المنزل واستقبل الطبيب المعلم بكل ترحاب قائلا: سمعت عنك الكثير وأرجو أن تجعل ابني جعفر يحب اللغة العربية، فهو ليس بالبليد ولا أعرف لماذا هو ضعيف بالذات بهذا الموضوع.
بعد أن احتسى المعلم فنجان قهوة، توجه الى غرفة جعفر لإعطائه الدرس، ولفت نظره أن معظم الألعاب المنتشرة في الغرفة ليست عادية ولا لمجرد التسلية والترفيه، فهي تركيبية وتحتاج إلى التفكير والتركيز.
جلس الطفل وكله آذان صاغية لما سيقوله المعلم…
قرر المعلم ان يبدأ درسه بقصة عن طالب فقير، كان يقوم بالعمل بالنجارة لدى عمه بعد المدرسة ليساعد والديه الفقراء في المعيشة.
عندما شعر المعلم بأن الطالب جعفر أعجب بالقصة، قال له:
الدرس الأول اليوم هو قصيدة كتبها ذلك الطالب…
فرح جعفر كثيرًا عندما عرف أن هناك قصيدة عن نفس القصة، وقال: اسمعني إياها أيا المعلم…
المعلم: تقول القصيدة
” أنا في الصبح تلميذ
وبعد الظهر نجار
فلي قلم وقرطاس
وإزميل ومنشار
وعلمي إن يكن شرفًا
فما في صنعتي عار
فللعلماء مرتبة
وللصناع مقدار”.
عندما سمع الطفل القصيدة قال للمعلم: هل تعلم يا معلمي أنني لا أحب دروس العربية بسبب معلم العربية، فهو يكرّر ما في الكتاب دون أن يشرح، وهو أيضًا جاف في تعليمه.
المعلم: ولكنك مجبرًا على أن تحبها.
استغرب الطفل الجواب وقال: لماذا أنا مجبر على حبّها؟
المعلم: لأنّها لغة القرآن وأنت كعربي مسلم عليك أن تحبها.
الطفل: وكيف عرفت بأنّني مسلم؟
المعلم: أمّك وأبوك مسلمان، فانت بالتالي مسلم.
الطفل: هل تسمح لي بأن أسألك سؤالا شخصيًّا؟
المعلم: تفضل…
الطفل: ماذا يعمل أبوك؟
المعلم: إنه يملك كراجًا كبيرًا لتصليح السيارات وهو ميكانيكي بارع…
الطفل: وهل أمك تعمل؟
المعلم: نعم هي محامية…
الطفل: حسب منطقك، فعليك أن تكون في الصبح محاميًا وبعد الظهر ميكانيكي، ويمكنك أن تكتب قصيدة حول ذلك.
اجابه المعلم باستغراب: لما تقول ذلك؟
الطفل: هذا هو منطقك الذي قلته قبل قليل…
المعلم: انا قلت ذلك؟ كيف؟
جعفر: انت قلت، بما أن أبي وأمي هما مسلمان فأنا مسلم، وحسب هذا المنطق يجب أن تكون انت كوالديك…
المعلم: لا، هما اختارا طريقا وأنا اخترت طريقا آخر…
الطفل: وهذا ما اقوله أنا، ابي وامي مسلمان وأنا ربما سأختار دينا آخر فيما بعد…
المعلم: لماذا دين آخر؟
الطفل: لماذا أنت معلم؟
المعلم: انا اقوم بتدريس الطلاب حتّى يبرعوا في المستقبل باللغة العربية…
الطفل: هل تعتقد أن جميع الطلاب الذين تدرسهم سيتخصصون باللغة العربية بعد ذلك؟
المعلم: لا اعتقد ذلك، بل بالعكس حسب ما أرى. لكنهم لن يخسروا ما علمتهم إيّاها.
الطفل: إذا أنت تعلمهم ولا تفرض عليهم؟
المعلم: صحيح.
جعفر: هل تعتقد ان الله يفرض علينا دينا دون غيره؟
المعلم: بالطبع لا، فلا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.
جعفر: حسنا إذًا. دعني اتعلم العربية منك وباقي المواضيع من المعلمين الآخرين، حتى أستطيع فيما بعد أن اختار ما يلائمني، فربما سأختار دينا آخر وربما بلدا آخر ومن المؤكد بأنني سأبدّل اسمي، لأنه لا يعجبني، ليس لأنه على اسم جدي بل لأنّني لم اختره…
نظر المعلم إلى جعفر نظرة طويلة وأخذ يفكّر بنفسه ويتساءل: جئت لأعطي الطفل درسا في اللغة الغربية، فأعطاني درسا في المنطق… حتى سمع صوت الطفل يقول: أكمل يا استاذ الدرس، فقد جعلتني فجأة أحبّ اللغة العربيّة.