قراءة في الديوان لا تسافر أيها الحلم بقلم الكاتب: إبراهيم السواعير من صحيفة الرأي الأردنية.
حين يحتشد فكر الشاعر أو الكاتب بجغرافيا وتاريخ وموروث صعب، فإنّ ذلك حتماً يجعلنا نحترم هذا الأديب، لأنه إنّما يكتب لهدف أو نتيجة، فهو مرآة تعكس هموماً لا طاقة لعقل أو جسد بأن يتحملها غير عقله وجسده، وحين يضخّ الشاعر الفلسطيني محمد بكرية في عروق نصّه الشعري في الديوان المعنون بـ”لا تسافر أيها الحلم” دماءً جديدة لم يعتدها القراء الذين يذهب بهم كثير من الشعراء إلى أحلام لا تستند إلى واقع أو لا تظللها غوايات الأسطورة وتاريخ بني الإنسان والرسل والأنبياء،.. حينذاك نشعر بمدى الشفقة على الشاعر محمد بكرية الذي ما إن ينتهي من نص حتى يدخل نصّاً آخر، فلا تكاد تغادر سطراً فيه نحو السطر الذي يليه إلا وتجد أنّك أمام أسطورة أو مشهد نبوي أو حرب طاحنة أو إعدام مفكّر أو حنين إلى تحرر، أو دعوة لتصالح أديان، أو بكاء لدماء تراق، أو خوف من زمنٍ آتٍ، أو استلهام مسرح أو رواية أو فكرة يريد بكريّة إثباتها بما مضى من التاريخ وما يعيشه المرء اليوم من غربة يعبّر عنها الشاعر نيابةً عنّه، ولذلك، فإنّ اشتغال هذا الشاعر في الواقع هو اشتغال مكثّف وقوي ومقنع، فيه أحلام وفيه وأد لهذه الأحلام، فيه بكاء وحنين، وفيه سفر إلى تخوم جديدة؛… هذه الاشتغالات تندرج من قراءة أولية للديوان في قراءة جديدة للموروث بنوع من العتاب والضجيج والخوف واستعارة الطقس والمشهد وفضائل الأنبياء والصحابة وفلسفات المفكرين ونبل الأديان، ولهذا، فإنّ محمد بكريّة أودع في نصوص هذه الديوان سطوراً تصلح لأن تترجم إلى أكثر من لغة، أولاً، لأنّها مثقّلة بمعلومات يحتاجها البشر جميعاً، فهي تمتح من محيط لا ينضب من أساطير البشر ورواياتهم ومسرحهم وحروبهم وعصور النبوّة في مقاربة جديدة، فيها خروج على الماضي أو حنين إليه أو عتاب له، أو نقض لظروفه التي لم تعد اليوم، بل هو امتحان لكلّ ما مرّت به البشرية من تضحيات إنسانية وملاحم بطولية انتصرت للحق والفضيلة والصعود بالإنسان نحو مدارج الهناء الذي يأبى الشقاء في المقابل إلا أن يقف له بالمرصاد، لنكون أمام حالات تراجيدية وهموم لا تنتهي لبني الإنسان في أزمان تتكرر اليوم ويحملها جسد محمد بكريّة المنهك وعقله المتعب ولسانه الصامت وقلمه الذي جفّ.
في الواقع، ما أجمل أن يستعير الشاعر التاريخ ويقرأ الحاضر بعين الماضي، ويقارب أو يقارن بين الأزمان، ويتخذ من حروب اليوم وأدخنتها دليلاً قاسياً يدين شهوة الدّم وموت الأطفال وضياع الأحلام، والشواهد كثيرة ومبثوثة في الديوان الذي يحمل اسمه رجاءً لحلم يتأهّب للرحيل، إذا ما علمنا أن الحلم هو شرط بقاء الإنسان على قيد الحب والشعور بقيمة المكان.
يبدو محمد بكريّة مشفقاً على القارئ، فيضع له في نهايات كلّ قصيدة شرحاً موفّقاً وهوامش ذكيّة لكي يضعه بجوّ النصّ، فيطمئن إلى وصول الفكرة عن طريق الشرح الإضافي، ذلك لأنّ أشعاره تحمل أفكاره تجاه الموت والحياة والعيش ونكران الأمكنة والجفاء وموت الروح باستدعاء شواهد التاريخ، وهي شواهد لا يعرفها إلا المثقفون أو النخبويون، فالهدف نبيل جداً حين يأتي بكرية بهذا الشرح ليؤلف قلوب القراء على الشعر ويجعلهم يعيشون سطوره فيتمثلونها وكأنها اليوم، في نوع من الحنين أو البكاء أو المقارنة بين الأزمان، إذ ليس شرطاً أن تكون هذه المقارنة عادلة أو يكون فيها الزمن الماضي(الأسطورة، التاريخ، الحروب، الأديان، الفلسفات، الشعراء، ملاحم المسرح…) زمناً معيارياً، بمعنى أنّه هو الأجدى أو الأفضل أو هو المعيار الذي نسعى إلى أن نكون عليه ونعيش ظروفه، فلهذا العصر ظروفه الماحقة جداً، والتي لو تهيّأت اليوم لضج لها رواد ذلك الزمن الذي به نتغنّى وإليه ينتابنا الحنين.
محمد بكرية المشتغل بالإعلام واللغة والمسرح وتعليم الكتابة الدرامية، يصنع لنا عبر هذا الديوان قلائد من الأسطر التي تستحضر الألق وتقف قبالته في نوع من الحيرة والخوف والتأمل، فإذا لم يكن القارئ عارفاً برواد المسرح القدامى أو أبطال الشعر القديم أو ملوك الزمن الماضي أو جغرافيّة هذه الحروب أو النزاع بين الشرق والغرب أو ضحايا التاريخ، فسيقع في إشكاليّة البحث عن كلّ ذلك، ولأن بكريّة يعلم أنّ كثيراً من الشعر لا ينتمي إلى شيء أو هو لا يحمل فكرة، فإنّه يحشد كلّ ذلك ويجمّعه في أتون نص قوي فيه أحلام وخوف وبكاء ومقارنة، يذيّله بشروحات تكشف لنا كم يتعب الشاعر وكم يتحمل وعثاء السفر عبر الأزمنة لإنتاج نص نبيل، مقوماته الإنسان، وهدفه سعادة الروح التي تشقى كلّ يوم في تفاصيل جديدة اعتادتها عيون مظلمة لا ترى بصيصاً من نور.
إذن، محمد بكرية الشاعر الفلسطيني هو أديب موسوعي مثقف لا يفجع القارئ بالموقف المباشر، بل بالانحياز إلى الإنسانية في سطر مباغت أو لفظة ربما تأتي في نهاية السطر أو تستدلّ من سطور مسجوعة أو موسيقى ساحرة أو غنائيّة بين الأمس واليوم، وأسوأ شيء أن يصرح الشاعر وكأنه يكتب بياناً صحفياً أو مادة تقريرية عما يحدث، وما استعارة الشاعر بكرية لحصان طروادة والجلجلة وزنازين الماضي وقيس وليلى ومشاهد الملاك الحزين وقطرات الغيم والمسيح والنبي محمد عليه السلام وأرسطو وأفلاطون والميثولوجيا القديمة والبراق والإلياذة والرهبان ومريم العذراء وزوجة النبي خديجة وصكوك الغفران وزيوس والمدينة الفاضلة والأكروبولس وشكسبير والحلاج والملهاة المسرحية القديمة…. ومفردات كثيرة من بستان لا ينتهي،… إلا دليلاً على رؤيته المسبقة في كتابة القصيدة، واستثماره هذه الشخصيات والطقوس للوصول إلى الحقيقة الكبرى، وهي المقاربة والخلوص إلى نتيجة واحدة، وهي نبذ كلّ ما يعبث بأحلام الإنسان ولواعجه واشتياقه إلى لحظة جميلة، فإذا قررنا مسبقاً هذه الفكرة الإنسانيّة فإنّ كلّ إسقاط أو توظيف ينبني على هذا هو إسقاط طيب أو توظيف موفق، فمن الطبيعي إذن، أن تطل القدس ويحاور الشاعر الغريب عن نفسه ذاته وزمانه، وأن ينقض كثيراً من مسلمات التاريخ وقوانينها التي ألفها الناس، لأنّ هذا العصر يصلح بامتياز لان يحار أمامه البطل وصاحب الفلسفة والشخصيات الفاضلة التي حاورها محمد بكرية في منامه وخلال صفحات ديوانه وأخذت الحيّز كلّه من عقله ووجدانه وفكره، وهو يرنو إلى فكرة أو يحاور نبوءة أو يختبر وصيّة، أو يعتذر من قدّيسة أو يعيد مشاهد الريف والثورات وتقاسم الناس، وانتهاء زمن البطولات.
محمد بكرية شاعر استفاد من أسفاره فحاور كلّ المدن الأجنبية والعالمية في نصّه، وفي كلّ سفرة كان يربط اللحظة قيد الشعر بالماضي القريب، فهو شاعر مهووس بتاريخه حزين له، لا يملك إلا أن يقارب ويقارن ويستخلص العبر، وكلّ هذا وذاك في الواقع أمرٌ مؤلم ويعصف بعقل القارئ مثلما ألمّت بذهن محمد بكرية المصائب والهموم لكلّ هذه اللحظات الممتنعة على الفرح.
كيف يثرى النص الإبداعي، وكيف يصبح وجيهاً لأن يترجم أو يُقرأ بعين معاصرة وماضية في الوقت ذاته، وكيف نحبب القارئ الأجنبي لان يقرأ هذا الديوان أو ذاك، أو يشعر بفداحة ما نتعرض له من ظلم عبر التاريخ؟!.. نستطيع ذلك إن نحن علمنا ما تثيرة الميثولوجيا والوثيقة التاريخية وأدلة الموت في الذهنية الأجنبية، فنكون قد عبّرنا عن كلّ هذه المآسي التي هي نسخة عن مآسٍ سابقة أو هي استمرار لعصور بادت فعادت من جديد في نوع من التراجيديا التي تصبح معها كل تراجيديات الماضي ضئيلةً لا تكاد تذكر، فهي مهمة الشاعر وقوّة نصه ونبوغه وذهابه إلى ما يستفز قلب المتلقي ويضعه بجو المعاناة، وهي القراءة الذكية الواعية التي يتظلّم صاحبها بعد مرافعة نصيّة إبداعية ينثر فيها الشعر نثراً ويجيء منساباً دون تكلّفٍ أو عناء.
لا يتجرد محمد بكرية من شعوره بالمكان الفلسطيني والعربي والعالمي، فمرةً يحاور القدس وأخرى يأسى لأطفال الشام وثالثة يحاور ماء السين بفرنسا، مع شيءٍ من خيالٍ محبب، لأنّه يعترف في إحدى مقطوعاته بأنّ”الخيال قلم الراوي، يتوّج بطلاً، يجمّح خيلاً، يقوّض عرشاً، ويرفع نعشاً…”.
ومع تفتيش محمد بكرية المتكرر عن الفجر ووصفه الليل، يحلو للباحثين عن الرومانسية أن يفرحوا بالشاعر الذي يوقضون معه الفجر ويخلعون عنه أسمال الليل، فيقتادونه إلى حيث يريدون، يمسكون بيده كطفلٍ يخافون عليه من النعاس، مثلما يفرح أصحاب المفارقات النصيّة معه وهو يكسر التوقع ويخالف ما اعتاده الناس حيال كثيرٍ من المسلّمات، في حوار شفيف أو جملة تكتنز بكلّ ما تحمله من إسقاطات وتوظيف ما كان ليكون لولا عدّة الشاعر الفكرية والثقافية التي يضعها كلّها في نهاية المطاف في توليفة شعريّة يعيش معها القراء والمثقفون والنخبويون على تعدد مستويات النظر والقراءة والتلقي