عن الواقع والخيال/ كلمة موجزة ناجي ظاهر
عن الواقع والخيال/ كلمة موجزة
ناجي ظاهر
من الملاحظ أن الكثير من الاخوة المبتدئين خاصة في عالمي الفن التشكيلي والادب، عادة ما يفتتحون مسيرتهم “الإبداعية”، بالنقل الفوتوغرافي عن الواقع فيما يضعونه من رسومات، أو بالكتابة عن أحداث سبق وعاشوها، فنراهم يقومون بتسجيلها كما وقعت، ويغيب عن هؤلاء وأولئك، أن مَهمة النقل عن الواقع هي من شأن المصوّر الفوتوغرافي، وأن الكتابة الواقعية بشكلها المباشر، وكما وقعت، هي من مَهمات الصحفي وليس الكاتب الاديب.
لا شك في أن الحالة الإبداعية في الفن التشكيلي والادبي، تتقاطع مع الواقع، لكنها لا تنقله نقلًا مباشرًا وانما هي تُعمل فيه يدَ الخيال، وعليه نلاحظ أن الفنان التشكيلي إنما يقوم برسم أشياء من الواقع، لكن ليس كما هي، وإنما كما يراها بحساسيته المفرطة وكما يشعر بها، أما في المجال الادبي، فإن الكاتب الاديب المبدع إنما يفكّك الواقع ويقوم بإعادة صياغته عبر وجهة نظر ورؤية تضيف إلى الحياة ولا تنقلها بصورتها المرئية والمعيشة.
صحيح أن النقل الفوتوغرافي في الفن التشكيلي وفي الكتابة الإبداعية، له أهميته الكامنة فيه، من ناحية البراعة باستعمال التقنيات، في الفن القدرة على استعمال الالوان، وفي الكتابة القدرة على السرد مثلًا، إلا أن هذا كله لا يجعل من العمل المُنفّذ، عملًا فنيًا جديرًا بهذه الصفة، ما يجعل العمل الفني عملًا ابداعيًا بإجماع نقدي واسع هو التجربة، وهنا أشير إلى ما ذكره الكاتب ليون ايديل في كتابه “القصة السيكولوجية – دراسة في علاقة علم النفس بفن القصة “، الذي ترجمه قبل سنوات بعيدة إلى العربية الكاتب المرحوم محمود السمرة، حول التجربة التي ميّزت الابداع الادبي الروائي للكاتب الروسي ليو تولستوي. يتساءل ايديل بعد تقديمه مقطعًا من رواية “الحرب والسلام” لليو تولستوي، ما الذي يجعل هذا المقطع ابداعًا أدبيًا؟ يختلف عن غيره من النصوص الوفيرة التي كتبها جنود في مذكراتهم عما عاشوه وعايشوه أيام الحرب، ويجيب إنه يختلف بالتجربة الشاملة التي يقدمها لحالة الحرب.
بعيدًا عن البراعة في توظيف التقنيات في الفن التشكيل، مع أهميتها النسبية، بإمكاننا أن نتساءل، إذا كان بإمكان الكاميرا أن تنقل الواقع كما هو، لماذا يُجهد “الرسّام”، نفسه في نقله؟ ولماذا يبذل كل هذا الجهد المجّاني؟ أضف إلى هذا أنه مهما بلغ من براعة لن يتمكن من الدخول في منافسة معروفة النتيجة مع الكاميرا؟ بناء على هذا أقول إنه إذا كان بإمكان الكاميرا التقاط الواقع بحذافيره الصغيرة وربّما تلك التي قد تغيب عن العين المتفحّصة، فلماذا نقوم بالرسم أساسًا؟ من أجل إفحام الآخرين وإقناعهم بأننا متمكّنون من الرسم؟ وهل هذه رسالة.. أم مماحكة عبثية.. لا قيمة لها.
فيما يتعلّق بالواقعية في المجال الادبي، يمكنني الإشارة إلى كتاب أراه هامًا في هذا المجال للكاتب مُحيي الدين صبحي عنوانه” دراسات ضد الواقعية في الادب العربي”، يرى فيه أن تبني العديد من كتابنا العرب للواقعية في الخمسينيات والستينيات تحديدًا، حرم أدبنا العربي ظهور رواية مثل ” روبنسون كروزو”، للكاتب الإنجليزي دانيال ديفو، وحدّد من جموح الخيال في العديد من الاعمال التي نقلت الواقع نقلًا فوتوغرافيًا باسم الواقعية.
مُجمل القول..، الواقع هو المادة الأولية الخام للإبداع الفني والادبي، وغيرهما من الابداعات الإنسانية، إلا أن الخيال هو الابُ الشرعي للإبداع.. ولا ابداع بلا خيال.