عندما يهاجم الجسم نفسه: حول الالتهاب من نوع 2 وجهاز المناعة
عندما يهاجم الجسم نفسه: حول الالتهاب من نوع 2 وجهاز المناعة
على مدار سنوات طويلة، تعامل الطب مع الأمراض المعروفة والشائعة التي تؤثّر على مئات الملايين من المرضى، مثل الرّبو وربو الجلد والأورام الحميدة الأنفية. هناك أمراض أخرى مشابهة لها، مثل التهاب المريء EOE- alsoniphilic، وهو الأنبوب الذي يربط الفم والمعدة. ويعاني المصابون بـ EOE من أعراض معويّة غير مريحة إطلاقًا مثل التقيّؤ المتكرّر وحرقة المعدة الشديدة للغاية.
جميع هذه الأمراض وغيرها الكثير ناتجة عن التهاب من النوع 2. إذا أردنا أن نفهم حقًا سبب حدوث هذه الأمراض والعديد من حالات الحساسية، فنحن بحاجة إلى فهم سبب وكيفية حدوث هذا الالتهاب.
لماذا يحدث هذا المرض؟ ولماذا وُجِد جهاز في الجسم يقوم بمهاجمة الإنسان نفسه؟ للإجابة عن هذه الأسئلة تقوم الدكتورة منى كيدون، أخصائية طب الأطفال والحساسية والمناعة، مديرة عيادة حساسية الأطفال في مستشفى “سفْرا” وعضو فريق الحساسية والمناعة في مستشفى شيبا، بتنويرنا حول المرض وأسبابه والعلاجات المختلفة والمثيرة للاهتمام المتوفّرة اليوم لعلاج المرض.
تقول الدكتورة كيدون، باستثناء الربو، لا سيّما عندما يكون حادًا، وحساسية الطعام الحادّة أيضًا، فإن بقية الأمراض المصاحِبة (العملية الالتهابية)، في ظاهرها، ليست أمراضًا تهدّد الحياة، ومع ذلك في حالتها المزمنة والحادّة تعتبر أمراضًا تمسّ بجودة الحياة بطريقة ملموسة للغاية – الأمراض التي تجعل الأطفال يحكّون أجسامهم طوال الليل، ومواجهة التهاب سيلان الأنف المزمن مع الأورام الحميدة، المصحوب بصعوبة في التنفس عن طريق الأنف – عدم الشّم وعدم التذوّق وعدم الأكل بشكل صحيح – لأنهم إذا أغلقوا أفواههم للمضغ والأنف مغلق، فلا توجد طريقة لوصول الأكسجين إلى الجسم. بالإضافة إلى ذلك، سيلان الأنف مصاحب بحكّة شديدة جدًا في مسالك التنفّس العلوية وسيلان الأنف المستمر.
تعرّف الدكتورة كيدون الالتهاب من نوع 2 على أنّه أحد أكثر الالتهابات غموضًا في عالم الطب، علمًا أن أمراضًا عديدة تنجم عن التهاب من هذا النوع، ناجمة عن قرارات خاطئة عديدة يتّخذها جهاز المناعة. وتقول د. كيدون إن جسمنا يحتوي على جهازي مناعة يعملان معًا وبالتوازي، أحدهم نولد معه ويمكّننا منذ لحظة الولادة أن نفهم العالم من حولنا، وهو جهاز بسيط لا تنجم عنه ردود فعل طويلة الأمد فعّالة ومكتسبة. أمّا الجهاز الآخر فهو جهاز يتعلّم، وبه مجالان: مجال الخلايا التي تتواجد في هذه النظام، وهي تقوم بكل التحضيرات، التفكير والتخطيط واتّخاذ القرارات، بينما المجال الثاني هو الأجسام المضادة التي تقوم ب “العمل الأسود” (تهاجم كل ما عليها مهاجمته وفقًا لأوامر جهاز المناعة) وتقع معظم عملية التعلّم في النظام الخلوي.
لكي تعمل جميع الجهات معًا وبشكل صحيح، يجب أن تعمل قدرات التواصل وتحديد الهوية في الجهاز المناعي بشكل صحيح، ولكن مثل كل شيء في الحياة، قد تحدث أخطاء.
وتضيف د. كيدون: الالتهاب من النوع 2 “يختلق” أجسامًا ليحاربها لحماية الجسم، رغم أن الحديث عن أمور لن تضرّه بالمرة. حسب أقوالها، يخلق المرض سلسلة من القرارات الخاطئة ينشأ عنها التهاب في مجرى التنفس، التهاب في الجلد، في الأنف، وهذا يضرّ بالأنسجة ويجعلها تقوم برد فعل مبالغ به على كافة الأمور التي قرّر جهاز المناعة أن يردّ عليها بشكل مبالغ به.
يؤثّر هذا الالتهاب أيضَا على عمليّة تعافي هذه المناطق. على سبيل المثال، يمكن أن يحتاج الشخص السليم إلى أسبوع للتعافي من التهاب الأنف الطبيعي، من ناحية أخرى، الشخص الذي لديه ميل إلى التهاب من النوع 2، ولديه جهاز مناعي يسير في اتّجاه تفاعلات الحساسية، يبدأ أيضًا التهاب الأنف الطبيعي، ولكن بعد ثلاثة أيام إلى أسبوع، وبدلًا من أن يبدأ الجسم بعملية التعافي الطبيعية، يبدأ بسيلان أنف أقوى ونوبات ضيق التنفس والربو والجيوب الأنفية والحكّة، والعديد من النوبات الأخرى، وكأن الجهاز المناعي لا يعرف متى يتوقّف عن الردّ ليصل إلى عملية تعافي.
بالمقارنة مع ردّة الفعل المناعية الطبيعية التي يكون مصدرها مادة تشكّل خطرًا-بكتيريا تخترق الجسم على سبيل المثال، ما يؤدّي إلى ردّة فعل من الجهاز المناعي، في حالة التهاب من النوع 2 لا حاجة لدخول مادة للجسم حتى، يمكن أن تكون محفّزات بسيطة مثل الهواء البارد أو حتى الرياضة. هناك العديد من الحالات التي تحدث فيها ردّة الفعل الالتهابية بسبب التحديد الخاطئ للمواد التي نستهلكها، وهي المواد التي لا يمكن أن تضرّ الجسم، وحتّى إنها ضرورية له كالطعام.
كل خليّة من الخلايا داخل جهاز المناعة والمواد والأجسام المضادة، التي يتم إطلاقها من الخلايا من أجل حماية الجسم، لها دور في هذه الظاهرة من التهاب النوع 2. التهاب النوع 2 هو التهاب معقّد لذلك لا يمكن القول إن عاملًا واحدًا فقط هو المسؤول عن ظهوره.
لم يُخلق جهاز المناعة عبثًا. إلى ما قبل مئات السنوات كانت لردود الفعل هذه أهمية قصوى في حماية الجسم، ولكن في عصرنا الحديث اختلفت الأمور.
في البداية كنا نعيش في مستنقع وكان علينا أن نحمي أنفسنا من كل ما قد يصلنا. آنذاك كانت الأجسام المضادة من نوع E أساسًا والخلايا الحمضية (المنظومة الخلوية) تحارب الطفيليات بشكل فعّال، مثل الفيلاريا (دودة قد يصل حجمها داخل جسم الإنسان إلى 80-150 سم، وهي تتواجد في الأوعية الدموية والرئتين). أما اليوم، مع وجود نظام وقائي وتطعيمات، نادرًا ما يضطر الجسم لمحاربة ديدان أو تلوّث الهواء. وهذا هو السبب في إنه بحالات معينة يقوم جهاز المناعة بردود فعل على أمور ليست خطرة حقًا.
يحاول الكثير من الناس الذين يعانون من التهاب من النوع 2 علاج الأمراض التي تنشأ بسببه، لأنهم متيقّنون بأن الأمراض التي تنجم من الالتهاب هي المرض بعينه، وليست لديهم فكرة عن جذور المشكلة-عوضًا عن محاربة الالتهاب يحاربون الرّبو أو حساسية الطعام أو سيلان الأنف المزمن، وهذا لن يمنع الالتهاب من الظهور بصور أخرى، هذه الظاهرة من تعدّد الأمراض غير المرتبطة ببعضها البعض وتظهر لحماية الجسم تسمى “مسيرة الحساسية”.
تظهر الاستجابة الأولية لجهاز المناعة التي تؤدّي إلى التهاب من النوع 2 في الطفولة وهي تنعكس على الجلد، وتعرف باسمها الطبي “الأكزيما” وفي 80% من الحالات تظهر قبل سن الرابعة. هذا المرض هو بداية التهاب من نوع 2.
وإليكم السؤال الذي طالما طرحناه، كيف علينا أن نعالج التهاب من نوع 2 وكيف نمنع الجسم من مهاجمة نفسه؟
وفقًا للدكتورة كيدون، فإن أفضل طريقة لعلاج الالتهاب هي المنشّطات (ستيرويدات) ولكن للمنشّطات عوارض جانبية كثيرة، ولهذا يفضّل الأطباء استخدامها في العلاج الموضعي (علاج أساسي حيث ينتشر الالتهاب) بمساعدة أجهزة الاستنشاق أو مراهم من المنشّطات.
بالإضافة للستيرويدات، توجد أدوية تستخدم منذ عشرات السنوات لمحاربة الالتهابات، مثل مضادات الهيستامين، التي تبطئ نشاط تركيبة الهيستامين المرتبطة بردّة الفعل التحسّسية ذاتها. ولكن كما هو الحال في السترويدات، فإن هذه الأدوية لا تعتبر علاجًا لمصدر المشكلة.
العلاج المناعي: العملية الأمثل ستكون إذا تمكّنا من “تعليم” جهاز المناعة أنه لا داع لهذا التحسّس، وهذه العملية متّبعة في الحالات التي يكون العامِل خارجيًا. العلاج المناعي يهدف إلى مكافحة الحساسية الناجمة عن عثّ غبار البيوت وأزهار الزيتون وأزهار العشب. هذا العلاج يعلّم جهاز المناعة بطريقة تدريجية من خلال تعريضه بشكل مستمرّ وتدريجي أن لا يتفاعل مع هذه المحفّزات على شكل حساسية.
الأدوية البيولوجية: وهي أدوية مركّزة تثبط العملية التحسّسية منذ البداية. وتشرح الدكتورة كيدون: “في السنوات الأخيرة، ومع فهم العمليات التي تنطوي على تطوّر الحساسية، تمكّنا من تطوير أدوية لمعالجة كل مرحلة من مراحل الالتهاب. التحدّي الحقيقي الآن هو محاولة تحديد الجزء الأكثر أهمية في وقف الالتهاب لدى كل مريض. وأن نفهم أين سيكون وقف العملية أكثر فاعلية مع أفضل النتائج وأقل أعراض جانبية”.