شخصيّة تعشقها ذاكرتي إلى الأبَد بقلم: مارون سامي عزام
شخصيّة تعشقها ذاكرتي إلى الأبَد
بقلم: مارون سامي عزام
تحل هذا الشّهر الذكرى الرّابعة عشرة لرحيل رجل المجتمع الأستاذ شفيق صبري عزّام، ولا بُدّ أن أعيد إحياء ذكراه في هذه الأيّام، من أجل أن يبقى إرثه المجتمعي الكبير مدوَّنًا في الذّاكرة الشفاعمريّة التي أحبّت هذه الشخصيَّة الأبويّة الرّوحيّة، لقدرتها على خدمة كل من قصده… ساهم الرّاحل منذ مطلع شبابه بتكريس عِلْمِه لتأسيس البنية التّحتيّة التعليميّة المتينة لمجتمعه طيلة نصف قرن، دعائمها قائمة على التّضحية الحقيقيّة، السَّهر والاجتهاد. استطاع أبو زاهر الحفاظ على قدسيَّة مهنة التدريس رغم صعوبتها.
الإرث التعليمي للمربي الكبير الراحل شفيق عزام، لن يُمحى عن جدران مدرسة الكاثوليك العريقة… لن يُمحى عن جدران المدرسة الابتدائية “ج”… لن يُمحى عن لوح المدرسة الليلية لمدرسة المكتب التاريخيّة، سيبقى اسم الأستاذ شفيق مكتوبًا على رأس قائمة المعلِّمين النّادرين… مكتوب في مُذكِّرات دفاتر طلّاب المدارس، ذكرياته مع معلميها ما زالت تجمعهم به في جميع الأماكن التي التقوه فيها.
كان التعليم بالنسبة لأبي زاهر سُنة حياة، تخرَّجت على يده أجيال ما زالت تكنُّ له كل التقدير، تبجّله، تتذكر سلاسة نهجه في تمرير المواد. اكتسب الطلّاب من فيض خبرته في مجال التعليم كيفيَّة اختيارهم للموضوع الذي يلائم تطلُّعاتهم المستقبليَّة، فأصغوا لنصائحه التوجيهية المفيدة… رغم انقراض هذا الرّعيل المميَّز من المربّين، لكن بصماته مطبوعة في القلوب.
ما زال اسم “الأستاذ شفيق” يتَردَّد إلى هذا اليوم في مدينة طمرة، في مجالس كبار السِّن، لأنّهم قدَّروا وجوده بينهم، ثمَّنوا تعاطفه الفعلي مع القضايا الوطنيّة. كذلك في مدينة شفاعمرو اسمه دائمًا محط اهتمام كل السّكان، ارتبط ذِكره بصِدق تعامله معهم، وشدّة وفائه لأصدقائه وجيرانه وزملائه، لذلك من الطبيعي جدًّا ألّا تنسى الذاكرة الجماهيريّة التأثير الشديد لهذه الشّخصيّة الفريدة التي قل نظيرها اليوم في مجتمعنا.
لقد كان الرّاحل من وجهاء المدينة المؤثِّرين الذين تميَّزوا بالحكمة والرَّويَّة، وفي كثير من الأحيان كان يؤخَذ بمشورته، لتمتُّعه ببصيرة سياسيّة واسعة الأفق في موسم الانتخابات المحليًّة… لم يتوانَ عن لعب دور الوسيط النّزيه في تقريب وجهات النَّظر بين الأطراف. حضوره يُعتَبَر قيمة مضافة لأي مناسبة اجتماعيّة. أجاد فن الخطابة البليغة والتلقائيّة التي خرجت من فمه بطلاقة، وكانت مقبولة على جميع أهل البلد، أضيف كونه الناطق الرسمي المعتدل والرصين لشريحة واسعة من أبناء بلده في الاحتفالات العامّة التي أُقيمَت في ذلك الوقت.
في المجال التطوعي كان للراحل شفيق عزام دور فيه أيضًا، فكان عضوًا فعالًا في بيت المسن، كان وكيلًا أمينًا لوقف الروم الملكيين الكاثوليك، على مدى 31 عامًا من النّشاط الدائم حتى رمقه الأخير، ساعده صفاء ذهنه على تذكُّر بعض الأمور المتعلقة بالوقف… أمانته كانت وسامًا على صدره، فخدم مجتمعه بكل حب، وسيظل الوجه المتألق بالسّماحة والوقار في كافة المحافل.
لم ينجَر وراء التأويلات، ترفَّع عن كل ما هو مسيء لشبكة العلاقات المميّزة بين الطّوائف الثّلاث، فاعتبروه محور التعايش، دعا إلى التسامح الدّيني. رحيله ترك فراغًا كبيرًا لن يستطيع أحد ملأه. أعْتَبِرُ محبَّته للآخر فصل من فصُول سيرته الذّاتيّة المتألِّقة، ترافق ذاكرة الذين عاصروه وعشقوا تواضع هذه الشخصيّة الاستثنائيّة، فاحترَموا هيبتها، تفاعلوا مع ابتسامتها.
أذكُر أنه جاءني ذات يوم حاملًا بيده كتابًا باللغة الإنجليزية، فطلب مني أن أقرأ جملة رائعة قالها أنتوني ايدن، رئيس وزراء بريطانيا في خمسينيات القرن الماضي تقول: History makes People more than people make history وتعنى: “التاريخ يصنع الرجال، أكثر ممّا الرجال يصنعون التاريخ”. عُمْق مغزاها بقي عالقًا في ذهني منذ ثلاثين عامًا وأكثر… لذلك ستبقى مسيرة الرّاحل الأستاذ شفيق عزّام خالدة في وجدان الجميع، لأن سِجِل كرامته ما زال محفوظًا في أرشيف حياته، رَفَعَ من شأنه… رَفَعَ من قَدْره بين مُحِبِّيه، ولا يمكن لأحد أن يدعي غير ذلك.