اضمن
اخبار محلية

سميح القاسم.. رجلٌ مرغوبٌ به ناجي ظاهر

سميح القاسم.. رجلٌ مرغوبٌ به

ناجي ظاهر

أعادتني الذكرى السنوية التاسعة لرحيل الشاعر الصديق العزيز سميح القاسم، إلى السنوات الاولى من حياتي مع الكلمة ومعايشتي لها. كان ذلك في أواخر الستينيات من القرن الماضي، يوم أرسلت قصة لي إلى مجلة “الجديد” الحيفاوية، واضعًا يدي على قلبي فهل سيقبل الشاعر المشهور محرّر تلك المجلة في حينها أن ينشر تلك القصة، لا سيّما وأنها تعارضت نوعًا ما مع كان يُنشر آنذاك في المجلة من مواد سياسية، وتحدثت عن حب الام وحب المدينة. وماذا سيكون موقفه؟ وتشاء الصدف أن التقي الصديق العزيز الكاتب الراحل نوّاف عبد حسن، في أحد شوارع مدينتي الناصرة، فيسألني عمّا إذا كنت قد أرسلت قصة إلى مجلة الجديد، فلا أجيبه خشية وتوقيًا، فيرسل إلي ابتسامة حافلة بالمودة مرفقًا إياها بابتسامة من طرف فمه، ويطمئنني على أن قصتي ستُنشر في العدد القريب من مجلة الجديد. عندها أسأله كيف عرفت هذا؟ فيبتسم مرة أخرى مرفقًا ابتسامته هذه المرّة بكلمات لا اتذكرها حرفيًا الآن وقد مضت عليها كلّ تلك السنوات، مُفادها أن سميح القاسم سأله عني ومَن أكون فأخبره أنني شاب متأدب وفدت عائلتي عام النكبة من قريتها سيرين إلى مدينة الناصرة للإقامة فيها، وقال لي إن سميحًا قرّر نشر تلك القصة لأنه رأى في صاحبها كاتبًا مبشّرًا وموهوبًا.

خلال علاقتي بسميح منذ ذلك العام حتى أيامه الاخيرة، تأكّد لدي حادثًا إثر حادث ولقاءً تلو آخر، أن سميحًا تعامل مع الحياة الادبية بشفافية، وأراد دائمًا أن تتفتّح في بستاننا ألف ومليون زهرة. كما أدرك ما لأهمية اعطاء مَن رأى فيهم أناسًا موهوبين الامكانية لأن يعطوا ويعطوا بلا حدود.

في الفترات التالي وخلال سنوات وسنوات كان سميح طابت ذكراه، يسعى للتعاون مع كلّ مَن يرى فيه مقدرة على العطاء ودفع عربة ثقافتنا العربية الفلسطينية في البلاد، كلّ ما يحتاج إليه ويتطلّبه للمزيد من التفتّح والعطاء، وأذكر بكثير من المودّة أنه طلب مني ومن آخرين في فترات تالية، أن نكتب عن كلّ مَن غادر عالمنا من فنانين وكتّاب. فعل هذا معي يوم رحل الفنان اللبناني الذي اشتركنا في محبته حسن علاء الدين الملقب بـ” شوشو”، ويوم طالت يد المنون شاعرنا الفلسطيني راشد حسين الراحل احتراقًا في لندن، في هذا الصدد لا أتذكر أن سميحًا ردّ إنسانًا جادًا عن بابه، وكان مقره في حي واد النسناس في حيفا، ملتقى للأدباء والفنانين، هناك في مكتبه التقيت عددًا وفيرًا من فنانينا وكتابنا ممن لم أكن أعرفهم، بينهم الفنانة الممثلة بشرى قرمان رحمها الله، والشاعرة البارزة المرحومة فدوى طوقان ابنة مدينة نابلس التي توطّدت معها العلاقة فيما بعد. وعندما توقّف سميح عن تحرير مجلة الجديد انتقل ليدير المؤسسة العربية للثقافة والفنون من مكتبه في شارع الموارنة، وأذكر بكثير من الدفء انه بادر في تلك الفترة لإيجاد تمويل لإقامة مهرجان الفلولكلور الأول في الناصرة بالتعاون مع الصديقين فوزي السعدي مدير جمعية المهباج والشاعر سيمون عيلوطي، وقد انتدبني في حينها لتغطية وقائع هذا المهرجان أولا بأول، لينشر ما أكتبه تباعًا في صحيفة الاتحاد الحيفاوية التي عمل فيها سميح أيضًا، محررًا فترة مديدة من الزمن.

عندما انتقل سميح إلى الناصرة ليعمل محررًا لصحيفة “كل العرب” تواصلت العلاقة بيننا، وأذكر أنني قمت بزيارته أكثر من مرّة في هذه الصحيفة، وأشهد أنه كان يفتح بابه لكلّ مَن طرقه، لا أتذكر أنه اغلق ذلك الباب بوجه أحد، وقد رافقته في هذه الصحيفة بنشري لعدد من المتابعات الأدبية الثقافية والفنية، بل إنه اقترح عليّ أكثر من مرّة أن أعمل معه وإلى جانبه، وأذكر أنني سألته في اللقاء الأول لي معه في مكاتب صحيفة كل العرب، عمّا إذا كان سيأتي من بلدته الرامة كل يوم الى الناصرة، فنظر إلي مستغربًا السؤال، فما كان منّي إلا أن حذّرته من الطرق وحوادثها، عندها ابتسم وقال لي لا تخف عمر الشقي بقي.. إلا أن ما حدث هو أن حادث طرق كاد أن يودي به وحدّ من حركته وقع له خلال تنقّله بين بلدته ومدينتي.

مما أتذكره عن سميح، أنني قمت قبل سنوات بالتعاون مع صاحب مجلة “الشرق” الفصلية الثقافية التي صدرت في شفاعمرو منذ السبعينيات الاولى، وتوقفت قبل سنوات عن الصدور، أقول إنني قمت بالتعاون مع الدكتور محمود عباسي، أمد الله في عمره، بتحرير عدد خاص عن سميح قدّمنا فيه مادة ضافية عن سيرته ومسيرته، كما قدّمنا فيه مجموعة اختارها هو ذاته من بين كتاباته، وأذكر أن سميحًا تعاون معنا إلى اقصى حدّ ليصدر العدد بحلة أنيقة تليق به وبالمجلة.

الشخصية الانسانية الحانية ميّزت سميحًا طوال عمر علاقتي به، وأذكر مما اتصف به من سعة صدر وتفهم عميق لمجريات الامور، أنني ضقت ذات يوم كما ضاق كثيرون سواي بالادعاء أن شعرنا في هذه البلاد اقتصر على ثلاثة أو أربعة أسماء، فكتبت سلسلة من المقالات أنعي فيها على هكذا حركة أدبية تتوقف على مثل هكذا كم من الاسماء، فما كان من سميح ألا أن قام بالثناء على تلك السلسلة من المقالات قائلًا إنه يوافقني الرأي وإن البلاد التي تتوقّف عن تقديم الشعراء تشبه المرأة العقيم التي لا تلد الابناء.. وبلادنا والحد لله بلاد حباها الله بالكثير من القدسية والعطاء.

هذا عن سميح الإنسان المثقف المُحرّر المشجع لكلّ موهبة ثقافية يقتنع بها، أما عن سميح الشاعر، فان الحديث يبدأ ولا ينتهي، ولعلّي أجد في هذه المناسبة المؤسية، مناسبة الحديث عن ذكراه، فسحة للتحدث عن علاقته بصديقه وأخيه الذي لم تلده أمه، شطر البرتقالة الآخر، الشاعر المرحوم محمود درويش، فقد ظهر كلّ منهما في نفس الفترة، وقد أعطيا الكثير وأحبهما الناس، كونهما شاعرين مبدعين يثيرهما ما يثير الجميع من أحداث سياسية جسام تمرّ بها بلدان العالم وبلادنا خاصة، وبعد أن غادر محمود البلاد في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، جرت مكاتبات بين الشاعرين تلقتها صحيفة “الاتحاد” أولًا بأول، ليقوم محرّرها الادبي في حينها الكاتب الصديق محمد علي طه بنشرها وليختار لها عنوانًا لافتًا هو ” رسائل بين شطري البرتقالة”، وأذكر أنني عندما قام محمد علي طه بنشر تلك الرسائل كنت أعمل مساعدًا له في تحرير الصفحة الأدبية في الاتحاد، بل إننا تشارونا معًا في إطلاق عنوانها المذكور عليها، مع التشديد على أن طه هو مَن أطلق هذا العنوان اللافت عليها.

لقد رأيت دائمًا في سميح شاعرًا مبدعًا، وأذكر أن ندوة أقيمت في الناصرة في أحد أيام ذكرى الارض السنوية، شارك فيها أكثر من عشرة شعراء قدموا من أماكن ومواقع مختلفة من بلادنا، وكيف تألق سميح بينهم وكأنما هو من كوكب وهم من آخر، مع الاحترام لكلّ مَن كتب وقرأ في تلك الندوة.

إيماني هذا بقدرة سميح وتمكنه من ملكته الشعرية والابداعية بصورة عامة، دفعني لترداد رفضي لأية مقارنة بينه وبين شطره الآخر، الشاعر محمود درويش طابت ذكراه، وكنت أتذرّع برفضي لمثل هذه المقارنة، قائلًا إننا لسنا بحاجة للمقارنة بين أي شاعر وآخر، لأن لكلّ من الشعراء في عالمنا الرحب هذا، عالمه الخاص به، بل اختلافه عن سواه وهو ما يميّزه في عطائه، مشيرًا إلى أن لكل من شاعرينا قدرته المميّزة في القول الشعري، وان المطلوب منّا ألا نطلب من شاعر أن يكون نسخة من الآخر وإنما المطلوب منا أن نميّز الشعراء باختلافهم لا باتفاقهم.

رحم الله سميح القاسم، فقد أعطى الكثير وترك وراءه الكثير، وقد احسن رحمه الله بكتابته لسيرته الذاتية قبل رحيله بفترة وجيزة.. لتصدر في كتاب يمكِّن قارئه من معرفته أكثر. لقد عاش سميح القاسم حالته الشعرية حتى النخاع وأعطى الكثير، لهذا سيسجل اسمه بحروف من المحبة في أعلى قائمة شعرائنا الاماجد في بلادنا السخيّة المعطاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*رحل سميح القاسم بتاريخ 19-8-2014

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock