اضمن
ادبشعر

سليمان جبران:   بيرم التونسي رائد الزجل المصري (1893 – 1963)

سليمان جبران  :   بيرم التونسي

رائد الزجل المصري (1893 – 1963)

 

لم نعد في عصرنا هذا نحتمل كل ألقاب الماضي ومفاهيمه، حتى في الأدب. إذا كان شوقي شاعرا كبيرا، وهو كذلك فعلا، فلماذا نلقبه في عصرنا هذا “أمير الشعراء” ، لماذا لا ندعوه زعيم أو كبير الشعراء المصريين أو العرب؟

بيرم التونسي أيضا لقبّه الإخوة المصريون “أمير الزجل المصري“ والرجل أبعد ما يكون عن الأمراء والملوك والحكام أيضا!  لذا، فقد جعلناه في العنوان أعلاه “رائد الزجل المصري“ لا أميره، خشية شكواه منا في قبره!  فالرجل كان أبعد ما يمكن عن الأمراء، شعرا وحياة .على كل حال ليس التونسي أوّل من كتب شعر الزجل في مصر،  كثيرون سبقوه في ذلك، لكنه أشهر الأوائل ربّما.

لا بدّ لي من الاعتراف أولا أنّ الشاعر أحمد فؤاد نجم، وفاته بالذات، كان نافذتي الواسعة إلى عالم الزجل المصري. لم يكن بيرم التونسي اسما غريبا على أذني طبعا. تكفيني أغانيه التي كتبها لأمّ كلثوم. لكنّي بعد وفاة الشاعر نجم انصرفت إلى تقصّي حياة هذا الشاعر وشعره، فكان المقال الذي كتبته عنه. وبفضله تعرّفتُ أيضا شعراء مصر الكبار في المحكيّة، سابقيه ولاحقيه، وعلى رأسهم الشاعر بيرم التونسي طبعا. ولو بدأت اليوم حياة جديدة، من البحث والدراسة، لجعلتُ الزجل بالذات، في لبنان أو مصر ، مجال اهتمامي ودراساتي!

قبل تناول حياة هذا الشاعر المعروف، لا بدّ لي من طرح مسألة عامّة لفتتْ نظري. ما هو السبب في غلبة الوطنية على الزجل المصري، قديمه وجديده، بحيث يمكن اعتبارها أبرز ملمح مضموني في هذا الشعر؟ لماذا انصرف الزجل اللبناني، في معظمه، إلى رومانسية طاغية من وصف للقرية وحكايات أهلها ومواسمها، بحيث يمكن لأغاني فيروز وحدها أن تشكل مصدراً لمن يرغب في تعرّف هذه الحياة بكل نواحيها، في حين تغلب الوطنية في مصر على شعر المحكية إلى حد بعيد؟

قد يكون السبب المركزي في هذا الأختلاف المصموني البيّن، بين شعر المحكيّة في هذين القطرين المركزيّين في النهضة الفكريّة والأدبيّة، هو “الليبراليّة” النسبيّة التي كانتْ في ظلّ الحكم الإنجليزي في مصر، إذا قورن بالحكم التركي المتخلّف الجائر في بلاد الشام. ألمْ يهاجر كثيرون من اللبنانيّين، مفكّرين وأدباء وشعراء وصحافيّين ومترجمين، إلى مصر في أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، فيشكّلوا رافدا هامّا في نهضة مصر الحديثة، فكريّا وأدبيّا؟

إذا رجعنا إلى بيرم التونسي، موضوعة مقالتنا هذه، فهو مصريّ المولد والنشأة والوفاة، رغم “التونسيّة” هذه التي لازمتْهُ في اسمه طوال حياته، وبعد وفاته أيضا. ذلك أنّ جدّه هو مَنْ هاجر من تونس إلى مصر، حيث تزوّج وأنجب أولادا ثلاثة، كان منهم والد بيرم. أمّا بيرم نفسه فقد وُلد في مصر وفيها عاش حتّى آخر أيّامه.

ولد بيرم في الإسكندرية، مثل الموسيقار المبدع سيد درويش البحر، المعروف باسم سيّد درويش (1892 – 1923) ، بل كان بين الاثنين زمالة وتعاون فنّي أيضا، إذ كتب له بيرم أوّل قصيدة وطنية، ورواية شهرزاد أيضا.  يقول بيرم في ذلك: “لازمت الشيخ سيّد درويش والّفت له رواية شهرزاد بعيدا عن النشاط السياسي، وتمّ عرضها بعد رحيلي الأول منفيًا إلى الخارج. وكان الاسم الذي اقترحناه للرواية هو شهرزاد إشارة إلى شهوات العائلة الحاكمة، ولكنّ الرقابة منعت ذلك الاسم فعدلته”.

تُفي بيرم من مصر غير مرة، بسبب مواقفه الوطنية. فقد نفى إلى تونس، بسبب مقالة ضد زوج الأميرة فوقية”، ابنة الملك فؤاد وبسبب قصيدته الساخرة “البامية الملوكي والقرع السلطاني. ومن تونس سافر إلى فرنسا، إلى مرسيليا التي لم يحتمل البقاء فيها سوى أيام انتقل بعدها إلى باريس التي كتب فيها:

الفجر  نايم   وأهلك  يا باريس   صاحيين

معمّرين  الطريق  داخلين على  خارجين

ومنوّرين الظلام،   راكبين  على  ماشيين

وعيال تروح المدارس  في الحقيقة رجال

ورجال ولاكن على  كلّ   الرجال  أبطال

ولسه  حامد  وعيشة  واسماعين  نايمين !

ومن باريس انتقل إلى ليون حيث عمل في مصانع الحديد، ولاقى الويلات. يصف بيرم حياة الشقاء والجوع في مدينة ليون قائلا: “كنت أثناء الجوع أمرّ بمراحل لا يشعر بها غيري من الشبعانين. كنت في البداية أتصوّرالأشياء، وأستعرضها في ذاكرتي: هذا طبق فول مدمس، وهذه منجاية مستوية.. وهذه يا ربي رائحة بفتيك تنبعث من عند الجيران، ثم أصل بعد ذلك إلى مرحلة التشهي، أثناءها تتلوى امعاني، ويبدأ المغص، ويطوف الظلام حول عيني، وأتمنى من الله أن ينقلني إلى الآخرة، فهي أفضل من هذا العذاب الأليم.. وأخيرا تبدأ مرحلة الذهول وخفّة العقل، فأطيل النظر إلى اللحاف الذي يغطيني، وتحدثني نفسي أن آكل قطنه أو أبحث عن بذرة للغذاء تحتوي على زيوت وكان لا ينقذني من تلك الحال سوى معجزات، عندما أنهض كالمجنون أبحث في كل أركان الغرفة عن أي شيء فأعثر بالصدفة على كسرة خبز، أو بصلة مهجورة … ”  ولم تنته غربته هذه إلا بالعودة إلى مصر بجواز سفر مزوّر. وإذ ألقي عليه القبض نفي ثانية، إلى فرنسا مباشرة هذه المرة.

من المفارقات الغريبة في حياة بيرم أنّه لم ينلِ الجنسية المصرية رغم أنه مولود في مصر، ورغم حبه لها وأشعاره فيها وتضحياته في سبيلها، إلا في عهد الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1960.  لم يحصل على الجنسية المصرية، رغم انه مصري وطني أكثر من ملوكها وخديواتها، ورائد الزجل الوطني فيها. فهو كما كتب عنه فاروق شوشة “الأب.. فنّيا لكلّ هؤلاء المبدعين الذين حملت كتاباتهم تسمية شعراء العامية” .

وفي سنة 1961 توفّي هذا الشاعر الوطني الكبير في مرض الربو، الأتسما. شاعر المحكية الذي قال فيه أحمد شوقي: “لا أخاف على الفصحى إلا من أزجال بيرم!

ننشرأدناه  قصيدتين قصيرتين، للتعريف بهذا الشاعر العظيم، وبشعره الخفيف الدم. ملاحظة تقنية:  واضح، بهذه المناسبة، ما في كتابة المحكية بحروف  الفصيحة وعلاماتها

من ظلم” عريق !

من أشعار بيرم:

                (1)  سي المجلس البلدي

أوّل قصيدة نشرها بيرم وهي من البحر البسيط وباللغة الفصيحة

 

قد أوقع  القلب   في الأشجان   والكمد /  هوى   حبيب   يسمّى   المجلس  البلدي

أمشي  وأكتم  أنفاسي    مخافةَ  أنْ  /  يعدّها   عامل    في   المجلس     البلدي

ما شرد النوم عن  جفني  القريح سوى /    طيف الخيال، خيال   المجلس  البلدي

إذا  الرغيف    أتى   فالنصف    أكله  / والنصف     أتركه    للمجلس    البلدي

وإن   جلستُ    فجيبي   لست    أتركه / خوف اللصوص و خوف المجلس البلدي

وما  كسوت      عيالي  في الشتاء  ولا /  في الصيف  إلا  كسوتُ المجلس  البلدي      كان    أمّيَ،    بلّ      الله      تربتها   /  أوصتْ   فقالتْ  أخوك  المجلس  البلدي          أخشى  الزواج   إذا  يوم  الزواج  أتى  /   أن  ينبري   لعروسي  المجلس  البلدي

وربما    وهب      الرحمن   لي   ولذا /  في بطنها       يدعيه    المجلس  البلدي              وإن  أقمتُ   صلاتي   قلت   مفتتِحا     /   الله   أكبر   باسم       المجلس  البلدي           استغفر  الله  حتى   في الصلاة  غدثْ   /    عبادتي   نصفها      للمجلس   البلدي              يا  بائع   الفجل،    بالمليم     واحدة    /  كم   للعيال   وكم      للمجلس  البلدي؟!

 

(2) العامل المصري:

ليه أمشي حافي وانا   / منبت مراكيبكم

ليه فرشي عريان وانا/ همنجد مراتبكم

ليه بيتي خربان وانا  / نجار دواليبكم

هي  كده   قسمتي؟  /  الله  يحاسبكم!

ساكنين علالي لعُتَب  /  وانا اللي بانيها

فارشین مفارش قصب/ ناسج حواشيها

قانيين  سواق ي ذهب / وانا اللي ادورفيها

يا رب  ما هوس  حسد /  لكن  بعاتبكم !

من  الصباح     للمسه  / والمطرقه ف إيدي

صابر على دي الأسى / حتى نهار عيدي

ابن  السبيل    انكسي   /  واسحب  هرابيدي

تتعرو   من  م شيتي  / واخجل   أخاطبكم

ليه   تهدموني    وانا   / اللي  عزكم  باني

أنا اللي  فوق  جسمكم / قطني  وكتاني

عيلتي  في يوم   دفنتي / ما لقيتش أكفاني

حتى   الأسيه   و انا  /  راحل  وسايبكم!

( 3)  بخمسين قرش:

بخمسين قرش ترفع ميكروفونك/  لوش    الفجر    وزياده    شويه

خمسين قرش توضع نص درهم/ في جيب خصمك وترميه في بليّه

وخمسين  قرش  تنهب  أجزخانه/  من     المستشفيات    القاهريه

و خمسين  قرش يعفيك  المفتش / من الغرامات ويشطب لك قضيه

وخمسين قرش  تتبدل  محاضر  / بتهمه    عليك    وتتحوّل  عليه

وخمسين قرش شيخ حارتك يخلي/ ولادك   يهربوا  من  العسكريه

وخمسين قرش محفظتك تعود لك/  من  النشال   بالواسطه   القويه

وخمسين  قرش أكتب  لك  مقاله  /  بأنك  من    رجال     العبقريه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock