سليمان جبران: المقوّمات الفنّيّة في شعر الأطفال
[إلى الصديق ع. م]
بالمصادفة غير المحسوبة، رأيتُني ذات يوم أكتب مجموعة من القصائد للأطفال، وأصدرها أيضا في كتاب صغير، بعنوان “صغار لكن..”. وبالمصادفة مرّة ثانية، أراني اليوم ألقي عليكم هذه المحاضرة، حول العناصر الفنيّة في شعر الأطفال، ولم تكنْ قبل أيّام خطرتْ لي على بال.
المصادفة الأولى كانتْ حين طلبتْ منّي الصديقة خولة سعدي، مديرة قسم المناهج في وزارة التربية يومها، أن أساعدها في إعداد كتاب يضمّ شعرا للأطفال، أصيلا ومترجما، وبروح عصريّة تناسب أطفال ومفاهيم أيّامنا هذه. أعطتني أيضا بعض القصائد العبريّة القصيرة الجيّدة، لأقوم بترجمتها إلى العربيّة، بحيث تكون الترجمة “عربيّة ” فعلا، ولا تغدر بالأصل! كان بين هذه القصائد مجموعة كبيرة للشاعر العبري يهودا أطلس، شاعر الأطفال المعروف. إلا أنّ الرجل اشترط موافقته على ترجمة أشعاره بأن ألتقي به وأقرأ عليه عيّنة من الترجمة، رغم معرفته الضئيلة بالعربيّة، ليتأكّد أنّ قصائده في ” أيد أمينة “! التقيتُ به فعلا، وأخذتُ أقرأ عليه بالعربيّة، مع الترجمة الحرفيّة إلى العبريّة. لم أترجم قصائده شعرا، في سبيل الحفاظ على الأصل، إلا أنّ الترجمة كانتْ غنيّة بالإيقاع والقوافي، بحيث يُمكن اعتبارها “شبه شعر”. قرأتُ عليه أيضا قطعة منْ “بنات أفكاري” كنتُ كتبتُها من باب التجريب، مع الترجمة إلى العبريّة أيضا، لأُقنع الرجل أنّي قادر على المهمّة. كانت القطعة هذه المرّة موزونة مقفّاة طبعا، تلتزم بكلّ قواعد العَروض العربيّة. نظرتُ إليه فإذا به تنفرج أساريره، ثمّ يُردف قائلا: ألصحيح أنّنا في العبريّة ليس لدينا هذا الإيقاع والقافية والجرس، كما لديكم في العربيّة. قلْ لي: لماذا لا تكتب للأطفال، إذا كنتَ قادرا على كتابة مثل هذه القصيدة؟ هل تظنّ الدراسات الأكاديميّة أهمّ من الكتابة لأطفال شعبك؟ إلى متى سيظلّ الطفل العربي بعيدا عن دائرة الاهتمام؟
المقالة كاملة في موقع جريدة الحديث الورقية، موقع (منكم – www.mincom.co.il )
فاجأني الرجل بغيرته على الأطفال، كلّ الأطفال، وبسؤاله المتحدّي أيضا. أجبته أنّ الوضع اليوم يختلف عمّا كان، وأنّ كثيرين، هنا وفي العالم العربي، يولون الكتابة للأطفال كلّ اهتمامهم. وعدتُه على كلّ حال بكتابة بعض القصائد للأطفال، ليوقن أني لسْتُ ممّن يستخفّون بالصغار والكتابة للصغار. وهكذا كان! على هذا النحو كتبتُ المجموعة المذكورة، لكنّي كتبتُها جادّا وجاهدا أيضا، ولا أظنّ فخري بها يقلّ عنه بكتاباتي الأخرى غيرها.
واليوم شاءت الصدف أن تتغيّب إحدى المحاضرات عن هذا اليوم الدراسي، ليُطلب منّي إلقاء المحاضرة عن مقوّمات شعر الأطفال بدلا منها. رضيتُ بهذه “المسؤوليّة ” مرّة أخرى، وها أنا أُلقي عليكم محاضرتي هذه، لا باعتباري شاعرا للأطفال، ولا باحثا في أدب الأطفال. إنّها محاضرة تستند إلى تجربة قصيرة في كتابة شعر الأطفال، وإلى خبرة سنوات طويلة من القراءة في شعر الكبار. ثمّ إنّها في آخر الأمر آراء شخصيّة في مقوّمات قصيدة الأطفال، يحكمها الموقف والذوق الشخصيّان، ولكم أن تقبلوها أو ترفضوها، محتجّين على ” تطفّلي ” الجريء هذا!
السؤال الأوّل: ماذا نكتب للأطفال؟ أيّ المضامين يجب أن تحملها قصائد الصغار، فنحاول توصيلها إلى عقولهم وقلوبهم الغضّة؟ هل نواصل التلقين والإرشاد والوعظ، بأسلوب الوصايا العشر، كما هي الحال غالبا في شعر الأطفال بالعربيّة؟ إلى متى سنظلّ محكومين بهذه الكليشهات المكرورة المُعادة؟ حان الوقت، في رأيي، لمخاطبة الصغار بغير هذا الأسلوب ” الفوقي ” الذي لا يبلغ عقولهم وقلوبهم أصلا. علينا أوّلا، في قصائد الصغار، أن نهدم هذا الحاجز القائم بين الصغار والكبار: كبير يعظ ويعيد، وصغير يسمع ويُطيع. أفضل بكثير أن تنطق القصيدة باسم الصغير نفسه؛ أن يتقمّص الشاعر شخص الصغير ونفسيّته، يتذكّر نفسه وهو طفل صغير، أو يُخالط الصغار فيتعرّف عالمهم وميولهم وأساليبهم، ثمّ يتحدّث عن كلّ ما يظنّ أنّه يهمّ الصغار، أو يُقلقهم ويُؤلمهم أيضا. وإذا أراد أن يتخصّص في الكتابة للصّغار فليدرسْ علم النفس والتربية الخاصّين بالصغار أيضا، إلى جانب قراءة أدب الصغار، وبكثرة، في العربيّة، وغير العربيّة طبعا.
الأطفال يشعرون أنّ الكبار يقيّدونهم متى شاءوا، ويسيّرونهم كيفما شاءوا، فلتكُنِ القصيدة تعبيرا عن الثورة على هذه “النبعيّة العمياء” التي يضيق بها الطفل ولا يجد لها مبرّرا. فالطفل بطبعه يميل إلى الاستقلاليّة، ويتعطّش إلى المعرفة والتجربة والتمرّس بنفسه، إلى اكتشاف العالم منْ حوله، فلماذا لا يتجلّى ذلك كلّه في القصيدة ذاتها؟ وعالم الطفل كعالم الكبار، يحفل بالأفراح والسرور والهزْل، وبالتردّد والقلق والمخاوف والإحباط أيضا. فلماذا لا تكون القصيدة متنفّسا لهذه المشاعر والمسارب في عالم الطفل الداخلي؟ بكلمة أخرى: علينا أن نكون عصريّين لكي نستطيع مخاطبة الطفل بأسلوب عصري، وعلينا أن نكون تقدّميين، نعم تقدميين! لكي نكتب لأطفالنا أدبا أو شعرا تقدّميين:
أظلُّ في السريرْ / والكُلُّ ساهرونْ
فالوَلَدُ الصَّغير/ مُعَذَّبٌ مَغْبونْ
مَنْ قالَ إنَّ النَّوْمْ / فَرْضٌ عَلى الصِّغارْ
أَلَيْسَ هذ ا الظُّلْمْ / مِنْ عَمَلِ الْكِبارْ؟!
صِغارٌ نِحْنُ لكِنّا / لَنا عَقْلٌ لَنا فِكْرُ
وَلا يُعْجِزُنا أَمْرٌ /ٌ إذا ما شُرِحَ الْأَمْرُ
صِغارٌ َ نحْنُ لكِنّا / لَنا أُذْنٌ بِها نَسْمَعْ
فَهاتوا الرَّأْيَ في رِفْقٍ/ فَغَيْرُ الرِّفْقِ لا يّنْفَعْ!
وإذا كان لا بدّ منْ اكساب القيِم للصّغار في ثنايا القصيدة، فلْتكنْ قِيما عصريّة مقبولة، بعيدة عن الجمود والتقليديّة، كما أسلفنا، وبالتلميح والإشارة الذكيّة، بعيدا عن الأمر والنهي والمباشَرَة. انقرضت التعليميّة البغيضة، إلى حدّ كبير، في أَدب الكبار، شعرا ونثرا، فلماذا نُواصل إثقال كاهل الصغار الطريّ بما نكره لأَنفسنا؟
المسألة الثانية لا تقلّ شأنا عن سابقتها: كيف نكتب للصغار؟ بأيّ لغة وأسلوب وإيقاع ومعجم شعري، علينا أن نكتب القصائد للصّغار؟ أبدأ بلغة القصيدة فأقول إنّ قصائد الصغار، في رأيي، يجب أن تكون في اللغة المعياريّة المعاصرة، لا المحكيّة، ما دامت الأولى لغة التعليم في المدرسة والمعاهد العليا، هنا وفي البلاد العربيّة جميعها. قد يبدو هذا الموقف محافظا في نظر كثيرين، إلا أنّه موقف واقعي ومنطقي أيضا، في ظروفنا السياسيّة واللغويّة في العالم العربي. نحن في العالم العربي، بأقطاره الكثيرة المتباعدة، نعيش ازدواجيّة لغويّة لا أظنّ لغات كثيرة في العالم تعرفها بهذه الحدّة والتنوّع: هناك لغة طبيعيّة سائغة نتحدّث بها في البيت والشارع، وفي المدارس في أحيان كثيرة، ولغة أُخرى معياريّة هي لغة التدريس والكتابة عادة، إلا في القليل النادر، نتعلّمها ونعلّمها في المدارس والمعاهد والكتب. المحكيّة يكتسبها الطفل في بيئته الطبيعيّة تلقائيّا، وهي تختلف من بلد إلى بلد، ومن منطقة إلى أخرى أحيانا. أمّا المعياريّة فأرى من واجبنا، في المدارس خاصّة، إكسابها لأطفالنا لتظلّ اللغة الجامعة الموحّدة، رغم كلّ العوامل المفرّقة، وهي كثيرة. لذلك، وأعرف أنّ الاعتبار هنا خارجي، أرى أن نكتب القصائد للصّغار باللغة المعياريّة، شرط أن تكون هذه المعياريّة أقرب ما يكون إلى لغة الحياة الطبيعيّة، وتحافظ في الوقت ذاته على قواعد اللغة المكتوبة وأصولها. إنّها مهمّة شاقّة، أشبه بالمشي على الحبل، خاصّة في الشعر المحكوم بالوزن والقافية والإعراب، ولكنّها ليستْ مستحيلة على كلّ حال.
هذا يقودنا مباشرة إلى الوزن في القصيدة: هل نكتب القصيدة بالشكل الإيقاعي الخليلي، أم نكتبها في شعر التفعيلة، ما سمّتْه نازك الملائكة بالشعر الحرّ، أم نكتبها دون وزن ودونما قافية، كما هي في قصيدة النثر؟
في رأيي أنّ القصيدة للصّغار، بخلاف الشعر للكبار، يحسن بنا أن نكتبها موزونة مقفّاة، وفي قالب البيتيّة أيضا. الطفل، في ظنّي، أكثر استعدادا لتلقّي القصيدة القالبيّة السيمتريّة، وحفظها أيضا. فالإيقاع هو أكثر ما يُحسّه الطفل، وينطبع في أذنه وذاكرته. ألا نرى بعض الأطفال أحيانا يحفظون الفواتح الملحّنة، في برامج التلفزيون العربيّة والأجنبيّة، دونما تمييز واضح لألفاظها ومعانيها؟ يخلّون باللفظ، حتّى إذا كانتْ فاتحة البرنامج بالعربيّة، ويُتقنون مع ذلك اللحن أو الإيقاع. ألا ننسى نحن الكبار أيضا، في أحيان كثيرة، لفظا أو اسما لبعض الناس، بينما يظلّ وزنه أو إيقاعه يتردَد فينا صداه؟ من ناحية أخرى لا بدّ طبعا من استخدام الأوزان القصيرة، المجزوءات والمشطورات، بل نتصرّف بها أيضا ونولّد إذا استطعنا ذلك، دونما إخلال بالقالبيّة المذكورة، لتكون القصيدة بإيقاعها السيمتري محدّدة سائغة في نظر الطفل، لا يصعب عليه توقّع السطر اللاحق وقد ابتهى من قراءة سابقه، بما وعاه من نظام الوزن والقافية، دونما قدرة طبعا على التعريف والتفصيل الدقيق.
على القصيدة أيضا أن تكون غنيّة بالقافية ما أمكن، القافية الطبيعيّة الموائمة لسياقها، لا المُقحمة إقحاما، وبذلك يعين الجَرس أيضا، بالإضافة إلى الإيقاع، في شدّ أذن الطفل، بالمعنى المجازيّ، وقلبه وإمتاعهما أيضا. ثمّ إنّ القافية في آخر البيت أو السطر هي بمثابة النقطة ينتهي فيها المعنى أو المبنى النحوي غالبا، فتساهم في تماسك الوحدة اللغويّة وتسويغها. يّفضّل أخيرا أن تكون القافية مقيّدة غنيّة بجَرْسها، قريبة من الحديث العادي في الوقت نفسه، كما في وصف العيد الآتي:
يجيءُ كُلَّ عامْ / لا يُخْلِفُ الْميعادْ
لِيَحْمِلَ السَّلامْ / والسَّعْدَ لِلْأوْلادْ
فثَوْبُنا جّديدْ / وّلّيْلُنا نَهارْ
نَظَلُّ طولَ الْعيدْ/ نَزورُ أوْ نُزارْ
يَحْتَفِلُ الْكِبارْ / بالزائرِ السَّعيدْ
ويُنْشِدُ الصِّغارْ/ أهلا بيَوْمِ الْعيدْ
الألفاظ في القصيدة أخيرا، أو ما يّسمّى بالمُعجم الشعري، يجب أن تكون بسيطة سائغة أيضا. وخيرها ما كان مشتركا بين اللغة المعياريّة والمحكيّة. إلا أنّ ذلك، علينا أن نعترف، ليس بالمهمّة السهلة في الشعر المحكوم بالوزن والقافية خاصّة. ألمهمّ أن نحرص دائما على هذا المبدأ في توخّي القريب المفهوم من الالفاظ، وإذا عرضتْ كلمة لا بدّ منها في موضعها، فلا بأس في إدراجها في القصيدة، وإن كانتْ لا تنتمي إلى الفئة المذكورة. فالصّغير في آخر الأمر سوف يتعلّم “القاموس المعياري” شيئا فشيئا. ومفردة هنا وأخرى هناك، بشرط ألا تكون ” ثقيلة الدم ” يهضمها الطفل بسهولة ولا تُفسد عليه الجملة الجيّدة. بل إنّ سياقها في أحيان كثيرة يشِي بمعناها، حتى لدى الصغير، دونما حاجة إلى تفسيرها في الهامش؛ ذلك أنّ القصائد يُفسدها، في نظري، إثقالها بالهوامش، إذ تبدو كأنّما هي قصيدة من قصائد الكلاسيكيّين الجدد!
ثُمّ إنّ مبنى الجملة طبعا يجب أن يكون، ما أمكن، بسيطا معياريّا، دونما تعقيد من تأخير وتقديم، لا يناقض أصول النحو “الرسمي” من ناحية، إلا أنّه يقترب كثيرا من مبنى الجملة المحكيّة أيضا. من قال إنَ مبنى الجملة التقليدي في اللغة المكتوبة هو المبنى الوحيد المقبول لغويّا؟ أليس من حقّنا، في نطاق النحو الرسمي أيضا أن نبدأ بالجزء الذي نريد من الجملة؛ بالفعل أو بالاسم أو بالفضلة، دونما خروج مخلّ على قواعد اللغة؟ حتى في أدب الكبار يجب أن نتحرّر من القوالب والمباني التقليديّة، فكيف في أدب الصغار، والشعر المحكوم بالوزن والقافية خاصّة؟!
بذلك تكون القصيدة سائغة شفّافة، سهلة التناول، يقرؤها الطفل فيطرب لها. وإذا كان لا بدّ من الرمز فليكنْ شفّافا أيضا، سهل المأتى، لا يُخلّ بالقصيدة ومعناها إذا لم يصل إليه الطفل وراء السطور، أو تحت المستوى الإشاري للكلام، كما في الوصف التالي للقمر:
يَرْمي حِبالَ النورْ / فَتَغْمُرُ الْوُجودْ
تَمُرّ ُ فّوْقَ السّور / وتَعْبُرُ الْحُدودْ
مَلْعَبُهُ السَّماء / | واّمُّهُ الْاَرْضُ |
كَأنَّما الْوَفاءْ / | في طبْعِهِ فَرْضُ |
عنوان القصيدة، أخيرا، هو “الواجهة” التي يتلقّاها الطفل، قراءة أو سماعا. لذا يجب أن يكون العنوان جذّابا، يثير فضول الطفل ما أمكن؛ كأن يكون سؤالا، أو جملة ناقصة أو نحو ذلك. ومن المهمّ أخيرا استخدام عنصر التكرار؛ إنّه في شعر الصغار أهمّ منه في شعر الكبار، يُثري الإيقاع ويرسّخ بعض الألفاظ أو المعاني المركزيّة في القصيدة.
هذه، في نظرنا، هي أهمّ المقوّمات الفنيّة لقصيدة الصغار، ولا أشكّ أنّ قصيدة تجمع هذه المقوّمات، بشكل أو بآخر، هي قصيدة جيّدة، وفي نظر الأطفال أيضا.
[نصّ المحاضرة في اليوم الدراسي لأدب الأطفال، في المعهد الأكاديمي لإعداد المعلّمين العرب في بيت بيرل ].