اضمن
ادبمقالات

سليمان جبران: المفتّشة اليهوديّة!

سليمان جبران: المفتّشة اليهوديّة!

      انتقلتُ إلى دالية الكرمل. بفضل المدير / المفتّش “بلدياني” المذكور. الانتقال كان في الواقع إلى المدرسة في عسفيا. بل حرصتُ على مقابلة مديرها في الصيف، قبل بداية التعليم، كما نصّتْ رسالة الانتقال الرسميّة. وفي الأوّل من أيلول سافرتُ إلى عسفيا، ودخلتُ مدرستها، فأخبرني مديرها أنّ المفتّشة نقلتْني آخر الأمر إلى دالية الكرمل. هذا كان قرارها، وبلّغتْه مدير عسفيا في الاجتماع الأخير. تركتُ عسفيا رأسا، وسافرت في اليوم ذاته إلى المدرسة في الدالية، لأبدأ عملي هناك، كما كان قرار المفتّشة.

نقلي إلى الدالية، في آخر لحظة، وقع عليّ مثل زخّة برَد مفاجئة. مدير عسفيا قابلته في الرامة، حيث كان في زيارة لأهله من إقرث هناك، في عطلة الصيف. أمّا مدير الدالية فلم أكنْ أعرفه من قبل. قرأتّ اسمه غير مرّة في “صدى التربية” بالذات. كان من أعضاء نقابة المعلّمين البارزين. في كلّ انتخابات معلّمين كان يرأس إحدى القوائم “المستقلّة” فيها. أعرف أيضا أنّ أصله من ترشيحا لا أكثر. قلتُ في نفسي: طبعا هذي مقدّمة لمواصلة مجريات الطرد من المعارف. تكملة ما بدءوه معي في حرفيش. مدير الدالية سيواصل، بالتعاون مع المفتّشة اليهوديّة طبعا، ما بدأه المفتّش السيّئ الذكر في حرفيش. أقوم بواجبي نحو تلاميذي وضميري،  أعلّمهم كما أعرف، وكما يجب عليّ، قلتُ في نفسي ، وليكنْ ما يكون!

وصلتُ دالية الكرمل. سألتُ عن المدرسة ، وذهبتُ إليها. المدارس في قرانا يعرفها الناس باسم مديرها، وكذا كان سؤالي طبعا. دخلتُ غرفة المدير، فوجدتُه مكبّا على البرنامج، في ورقة كبيرة على الطاولة، وسيجارته أمامه في المكتّة وقد “قطّعت”. حيّيتُ الرجل، وعرّفته بنفسي. رفع رأسه عن البرنامج في نظرة فاحصة، وأخبرني أنّ المفتّشة بلّغتْه فعلا في الاجتماع الأخير بقدومي إليْهم. أضاف أنّ اسمي صار أمامه حتى. بل سألني إذا كانتْ لي طلبات معيّنة ليأخذها بالاعتبار في وضعه البرنامج.

بعد معرفتي بمدير المدرسة عن كثب، وجدتُه مغايرا تماما للصورة التي كانتْ له في ذهني. بل غدونا مع الأيّام صديقين قريبين أيضا. قال لي بيني وبينه ذات مرّة: كلّ ما تريده منّي بلّغني به بيني وبينك، وأنا ألبّي لك كلّ طلباتك الممكنة. فقط لا تُكثر من رفع إصبعك، والأسئلة التي لا لزوم لها في الاجتماع! حتّى المحفوظات التي كنتُ أختارها لتعليمها تلاميذ الصفوف العليا، كان يقرؤها ويمهرها بتوقيعه أوّل الأمر، ثمّ صار يسألني في كلّ قصيدة جديدة أختارها للتلاميذ: فيها شي؟ وإذ أجيبه بالنفي يوقّع عليها دون قراءتها حتّى. تعلّمتُ من علاقتي مع المديرالمذكورأنّ الحكم على الناس، من بعيد، دونما معرفة شخصيّة وتجربة، كثيرا ما تكون نتيجته الخطأ. هكذا غدونا، المدير وأنا، في السنوات التي تلتْ ذلك، صديقين قريبين، كثيرا ما نتزاور ونسهر معا. يعرف الواحد منّا ظروف الآخروحدوده، ويراعيها حتّى.

بعد مدّة، أواخر الفصل الثاني؟ شرّقت المفتّشة اليهوديّة مدرستنا. رأيتُها من شبّاك الغرفة، في أواخر الدرس الثاني، تدخل غرفة المدير. كنتُ واثقا أنّها جاءتْ مدرستنا، وغايتها أنا بالذات. يبدو أنّهم بعثوها إليّ، قلتُ في نفسي، لاستكمال ما كان المفتّش السيّئ الذكر بدأه معي من قبل . لكنّي في هذه المرّة لم أعدْ ذلك المعلّم الذي كنتُهُ في حرفيش. الانتقال إلى الدالية غيّر من مشاريعي، ومن مواقفي تبعا لذلك. أصبح طردي من التعليم يخيفني. كيف أواصل دراستي في الجامعة إذا طردوني؟ عليّ أن أمسك لساني ما أمكن، وأتدثّر بالصمت، قلتُ في نفسي، وليكن ما يكون. لم تعدْ ظروفي تشجّعني على التحرّش بهم، كما في السابق.

في الحصّة الثالثة دخلتُ الصفّ. في درس حساب أذكر. بعد بداية الحصّة بقليل، فوجئتُ بدخول المفتّشة الصفّ عندي. ألقتْ عليّ التحيّة، بالعبريّة أذكر، وطلبتْ منّي مواصلة الدرس، متّخذة لها مقعدا في البنوك الأخيرة من الصفّ.

كانتْ ترتدي بدلة، من جاكيت وتنّورة، بلون واحد غامق. امرأة قصيرة القامة، يبدو الحزم جليّا في وجهها، ومشيتها الواثقة بنفسها. كما تنعكس المحافظة في تسريحة شعرها التقليديّة إلى الوراء دونما مفرق. لم تسألني شيئا، ولم تطلب مني يوميّاتي ولا تحضيري. بل قامتْ حتى قبل نهاية الحصّة بدقائق، فشكرتْني، وغادرت غرفة الصفّ.

كان درس حساب. عن مبنى العدد، وعن منزلة العشرات في الجمع والطرح بالذات. لم يكنْ صعبا شرح قيمة منزلة العشرات. استعنتُ، كما في الكتاب، بالنقود في التمثيل على ذلك. الآحاد قروش، والمنزلة بعدها عشرات. الواحد منها بعشرة، تماما مثل قطعة النقود من عشرة. سألتُ بعض التلاميذ لأطمئنّ أنّهم استوعبوا الدرس الجديد، وواصلتُ الدرس وفق المكتوب في يوميّاتي.

الغريب أنّ المفتّشة لم تتدخّل في الدرس مطلقا. لعلّها رأتْ دفاتر التلاميذ الجالسين قربها. لكنّها لم تسأل شيئا، ولم تطلب منّي أو من التلاميذ شيئا. لعلّ التقرير جاهز، قلتُ في نفسي، فلا حاجة إلى التفتيش عليّ وعلى التلاميذ. وإلّأ فما تفسير سلوكها الصامت طوال الوقت ، ومغادرتها الصفّ قبل نهاية الحصّة حتّى؟

بعد الحصّة الرابعة، في “الفرصة”، دخلتُ غرفة المدير لسماع ملاحظاتها عن الدرس الذي حضرتْه.  وجدتُها هناك وقد جلستْ على كرسيّ بجانب كرسيّ المدير. ألقيتُ التحيّة بالعربيّة، فردّتْ عليّ بعربيّة عراقيّة لا تخطئها الأذن. ثمّ التفتتْ إلى المدير، وقالتْ له، بالعبريّة هذه المرّة، ما معناه: معلّم جيّد، ساعده في أداء مهمّته ما تستطيع. أهذا هو التقرير الذي أعدّتْه عنّي؟ قلتُ في نفسي. هذا كلّ ما عندها لتقوله عن الدرس، وعلى مسمع المدير أيضا؟

بعد مغادرتها المدرسة، دخلتُ غرفة المدير علّني أسمع منه المزيد عن الدرس وملاحظات  المفتّشة. لا يمكن أن يكون تقريرها إيجابيّا موجزا كالذي سمعتُ منها. يبدو أنّ المفتّشة لم تقرأ كلّ ما تكدّس في ملفّي من تقارير وملاحظات سابقة، قلتُ للمدير. ملاحظتها الإيجابيّة القصيرة لا يمكن أن تكون كتبتْها في تقريرها أيضا. يبدو أنّكَ لا تعرفها، أجابني المدير. هذه المفتّشة لا يهمّها المكتوب في الملفّات. لا تتلقّى الأوامر من أحد، ولا تقول غير ما ترى وتؤمن.

المفتّشة اليهوديّة المذكورة رافقتْنا في الدالية سنوات. “مفتّشة شاملة” أوّل الأمر، ثمّ “مفتّشة مهنيّة” بعد ذلك على اللغة العربيّة في المدرسة الإعداديّة الثانويّة. خلال هذه المدّة الطويلة، انتقلنا إلى مدرسة جديدة، في شرقيّ البلد، نمتْ إلى مدرسة إعداديّة ثانويّة، وكانتْ هي المفتّشة المهنيّة على اللغة العربيّة في هذه المدرسة أيضا. حتى بعد إنهائي اللقب الأوّل في حيفا، وبدء عملي في جامعة تل أبيب.

كانتْ تجيئنا يوم أربعاء، أذكر، وفي الحصّة الرابعة تدخل صفّي. في حصّة تاريخ الأدب، للحادي عشر؟ ثمّ ترافقني في سيّارتي الفولس فاكن الصغيرة إلى تل أبيب، فتنزل في الجامعة، ومن هناك تركب الباص إلى بيتها.

طبعا، في الطريق الطويلة إلى تل أبيب، كان حديثنا يتناول المجالات كلّها، بما فيها السياسيّة أحيانا! ولا أنسى صراحتها ذات مرّة، في نهاية نقاشنا السياسي الطويل: هربنا من الاضطهاد في العراق، فلماذا لا يتركوننا نعيش حياتنا هنا في أمن وسلام؟!

[من كتاب “ملفّات الذات”، حيفا 2018، ص. 46 – 49]

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock