رحلة في رواية/ رحلة إلى ذات امرأة بقلم: زياد جيوسي
رحلة في رواية/ رحلة إلى ذات امرأة
بقلم: زياد جيوسي
“رحلة الى ذات امرأة” هي الرواية الأولى للكاتبة الألقة صباح بشير وإن صدر لها كتاب مشترك مع الكاتب جميل السلحوت تحت عنوان “رسائل من القدس” إضافة لمقالات قراءات أدبية منذ سنوات عدة، والرواية من منشورات الشامل للنشر والتوزيع/ نابلس- فلسطين من273 صفحة من القطع المتوسط، لوحة الغلاف للفنان القدير جمال بدوان وقد عبرت اللوحة عن الرواية وعنوانها بشكل جيد، فعلى لوحة الغلاف الأولى امرأة ذات شعر منسدل حتى أسفل الظهر تسير حافية القدمين على الشاطئ الذي يحتوي القليل من العشب مرتدية ثوب أبيض، وأمامها الأفق والسماء والغيوم تنعكس عليها أشعة الشمس فتمنحها جمالا متميزا، وخلفها قفص طيور مفتوح برمزية لخروج المرأة من سجن المجتمع إلى فضاء الحرية، وفي السماء تحلق النوارس فوق الماء، بينما الغلاف الأخير كان عبارة عن وجهة نظر مختصرة بالرواية والكاتبة بقلم الكاتب الأستاذ محمود شقير وهو من أهم الأقلام الفلسطينية والتي لخص رأيه بآخر عبارة بقوله: “رحلة إلى ذات امرأة” رواية تفضح بؤس المجتمع الذكوري الذي يعيق تطورنا الاجتماعي، وتفضح في الوقت ذاته قمع المحتلين الذين يحتجزون أحلامنا، ولكن إلى حين”.
نجد أنفسنا نقف أمام رواية اجتماعية بامتياز دارت حول أربعة محاور هي: 1- المحور الذكوري سواء من ناحية سلبية أو إيجابية 2- المحور النسائي ومعاناته من جانب وعدم الوعي بالسلوك من جانب آخر. 3- المحور المجتمعي العام والخاص. 4- محور الوطن وتأثيراته.
وضمن هذه المحاور المتداخلة في الرواية كما الحياة تمكنت الكاتبة بشكل عام من السيطرة على مفاهيم وقوانين السرد الروائي، فقد تمكنت في روايتها من موازاة الحياة المجتمعية هذه الموازاة التي وصلت إلى حد التطابق مع مشكلات اجتماعية يعاني منها المجتمع الفلسطيني، فهي من خلال تجسيد الموازاة بين خيال الكاتب وواقع الحياة تجعل القارئ يخرج من فكرة أنه يقرأ قصص من الخيال وتجعله يشعر أنه يقرأ قصص إجتماعية من واقع الحياة، قصص مليئة بالألم الذي ركزت عليه الكاتبة واستفاضت في وصفه، ونادرة الفرح ولا يتم الاشارة اليه إلا بإشارات عابرة وسريعة كما زواج ابنة حنين، ولكن أيضا نجد الكاتبة أتقنت في روايتها قانون التتابع وهو قانون مهم بالبناء الروائي من خلال متابعة شخوص الرواية الرئيسة والثانوية من لحظة تحديد المسرح الأول الرئيس للمكان الأول في القدس ثم المسرح الثاني للمكان في باريس فالمسرح الثالث الثانوي في لندن، فتتابعت أحداث الرواية بشكل متتابع للحدث في الأزمنة والأمكنة وليس على شكل الاسترجاع والاستعادة، إلا في البداية لتضيء على المسرح الأول وعلاقتها به منذ الطفولة المبكرة.
تمكنت الكاتبة بجدارة من وصف المسرح الأول بدقة وخاصة في لحظات البداية للرواية في القدس والتي لها مكانة خاصة في قلوب الجميع، مما يجعل القارئ أكثر اهتماما بمتابعة القراءة وعدم التوقف وخصوصا بعد أن ينتقل من المشهد الوصفي الأول بجماليته وعبق القدس فيه، لأحداث الانتفاضة الأولى وهو الزمان الأول للرواية ومن خلال حنان الراوية للرواية، التي أشارت بوضوح كيف أن الانتفاضة فجرت ثورة في مواجهة الاحتلال بدون خوف، وفي المقابل تعطلت الحياة والدراسة في المدارس وإن كان التعويض من خلال التدريس الشعبي كما تعطلت الجامعات حتى أن الراوية لم تتمكن من اكمال الدراسة إلا لاحقا وبعد سنوات، فالانتفاضة الفلسطينية الأولى كانت حدث مهم في القدس كما كل المناطق المحتلة، وعمليات القمع بالرصاص مقابل الحجارة بحيث تقول: “لماذا رأيت الحجر أقوى من البندقية يومها؟” كما اشارت لمفهوم المقاومة وقالت: “البعض يظن أن المقاومة في حمل السلاح، كم بسيط هذا التفكير”، وكيف تودع الأم ابنها الشهيد بالأهازيج.
لتنقلنا الى المشهد الوصفي للواقع والفضاء المجتمعي وإشكالاته، وتجول بالقارئ بالتأثيرات النفسية ودلالاتها لدى شخوص الرواية والتي تكمن خلف سلوكهم، ومن بعض ما أوردت الكاتبة في هذا المجال قانون العيب المتوارث الذي يحد من حياة الفتيات منذ الطفولة ولا يطبق على الأطفال الذكور، وما تحدثت به عن والدتها وكيفية التعامل مع أطفالها ضمن هذا القانون الذي يجعل البنت في قمقم خوفا من ألسنة الناس بعكس الولد المسموح له بالخروج واللعب مع أترابه، مستخدمة الأمثال الشعبية المتوراثة حول ذلك، اضافة للحديث عن الزواج التقليدي بدون أن يعرف الزوجين بعضهما وتأثيراته اللاحقة التي تدمر الأسرة حين يذوب الثلج ويظهر المرج، وكيف تعاني المرأة ان تزوجت وسحقها قطار الزواج وإن لم تتزوج سحقتها الألسنة بأنها عانس، وعن سيطرة بعض النساء على الأزواج والأبناء وسحق شخصياتهم، وكيف تسلم الفتاة القرار لأبيها بينما هو يسمح لها باتخاذ القرار، والانتباه لعيوب الآخرين والاغفال عن العيوب الذاتية بقول الراوية حنان: “هكذا نحن البشر، ننتبه لأخطاء غيرنا ولا ننتبه لأخطائنا” إضافة للإشارة من خلال بعض الشخصيات للعلاقة الطيبة بين سكان القدس بغض النظر عن الديانة اسلامية أو مسيحية، وتورد صديقتها ماري المسيحية الديانة لتشير للتعايش المسيحي والمسلم في القدس المستمر منذ أن تسلم الخليفة عمر مفاتيح القدس ورفض ان يصلي في كنيسة القيامة، حتى لا ينازعهم عليها أحد وصلى بالمكان الذي بني عليه مسجد عمر بجوار كنيسة القيامة.
هناك تناقض في شخصية الراوية وربما يعود ذلك لصغر سنها ومحدودية تجربتها في الحياة وطبيعة أسرتها المحافظة وخاصة الأم، فهي كانت تمتلك القرار بالزواج من عمر أو رفضه ولكنها تركت القرار لوالدها، وهي كانت تعرف أن عمر انسان تقليدي وغير واع وغير مثقف ولا تشعر تجاهه بمشاعر الود ولا الحب، ورغم ذلك لبست له ليلة الدخلة قميص نوم مثير باللون الأحمر بدلا من الابيض الذي نصحتها بها أمها، فهل قصدت الإثارة الجسدية له؟، وحين أثير وتهيج رفضته مما أدى لعملية اغتصاب تحت تأثير الهيجان الجسدي وقلة الوعي، فهو لم يستطع المقاومة أمام جمالها واثارتها له في الليلة الأولى، ويلاحظ أنها تحمل مسؤولية كل شيء لزوجها وأنه بوجه الحمل الوديع أمام الناس وعصبي جدا في بيته، متناسية أنها أصبحت زوجته شرعا وقانونا وتتهرب لعدة شهور من العلاقة الزوجية الخاصة، وفي المرات القليلة التي حصلت لم تشعره أن هناك أنثى في سريره، فكيف سيكون تعامله معها وخاصة بمستوى تفكيره؟ وبالنسبة لتدخلات أمه فالراوية تعرف مسبقا أن الأم مسيطرة على الزوج والابن من اللحظة الأولى فكيف كانت تتوقع موقف من زوجها وهو تحت سيطرة الأم؟ ولاحقا مزق لها كتبها وحرقها فهو يعتبر القراءة مضيعة للوقت. والمرأة بنظره مهمتها الطبخ والكنس والسرير والانجاب وخاصة للذكور.
وتحدثت عن رفض فكرة الطلاق بطلب من المرأة واعتباره عار يلحق بالمرأة وأسرتها رغم سوء الحياة الزوجية واضطهاد المرأة، وأشارت إلى الغيرة القاتلة بين بعض الأخوات، والقتل تحت شعار جرائم الشرف والتي هي أبعد ما تكون عن الشرف وعن الدين أيضا وتعلن رفضها لما يسمى شرف الأنثى وتعتبره وهم وخدعة، اسماء ابنة الجارة اصبحت أنموذج مهم من المعاناة الاجتماعية والتي احبت ولم تتزوج حبيبها وأجبرت على الزواج من كهل ولكنها حصلت على الطلاق بعد معاناة مع طليقها ومع والدها السكير، وتمردت على اهلها وقررت الزواج من حبيبها الأول ورفض اهلها فقتلها والدها حرقا حيث “فضّلوا تعذيبها وموتها حرقا على زواجها ممن تحبّ!” تحت حجة الشرف، وإن كان هذا التمرد مع السلوك والخروج الليلي متبرجة غريب عن مجتمع القدس المحافظ وخاصة في ظل الانتفاضة.
وأشارت بشكل جيد إلى دور الأب المثقف الايجابي بدعم ابنته والوقوف إلى جانبها رغما عن موقف الأم المحافظ والتقليدي، ولكن في المقابل أهملت الاشارة لأي دور لشقيقها وإن اشارت لزوجته إشارات عابرة، علما أنه من المفروض أن الأخ هو السند الأكبر لأخته في الغالب،كما اشارت لانعدام الوعي بموضوع انجاب البنات بدون الذكور وتحميل المسؤولية للمرأة من قبل الزوج وأهله في موضوع انجاب البنات والرغبة بالأولاد ليس مسألة شاذة بمجتمعات فلسطين، فكيف حين يكون الزوج وأهله بلا علم ولا ثقافة؟ فمن الطبيعي ترداد الأمثال الشعبية المسيئة لانجاب البنات وللزوجات، وهذا كان يجب الانتباه له من الراوية، رغم انها بسبب ظروف الانتفاضة لم تكمل دراستها الجامعية إلا بعد سنوات ولكنها تمتلك ثقافة جيدة من خلال حبها للقراءة ووعي والدها وثقافته وكذلك الأم رغم تربيتها التقليدية.
ولفت نظري ترك الزوج لعمله ففي بداية الرواية وحين الخطوبة قالت الراوية ان عمر لا يعرف في الحياة سوى العمل ولا علاقة له بشيء آخر كالثقافة والموسيقى الخ.. فكيف أهمل عمله وأصبح بلا عمل يقضي وقته بلعب الورق والتسلية مع اخوانه وأصحابه ويرفض البحث عن عمل وهو يحتاج المال لمصروفه ولبيته وهو مدخن شره أيضا؟ بحيث أصبح يعتمد على مساعدات والد زوجته!! كما أشارت الرواية الى النظرة التي ما زالت قائمة عند الغالبية بأن الاولاد الذكور هم عزوة الأب وسنده ومشروع اقتصادي لجلب المال، ورفض الأزواج التقليديين فكرة تعلم الزوجة واعتبارها فقط خادمة في البيت ومتعة بالسرير حتى لو تم ذلك بالقوة التي تعتبر إغتصابا، والاستناد لأحاديث شريفة وآيات قرآنية مجتزأة بدون وعي لها، كما أشارت الراوية إلى الكثير من القضايا الاجتماعية المهمة بين ثنايا الصفحات، فكانت الرواية سلسة وواقعية وبلغة قوية ولكن سهلة ومن أحداث عرفنا بعضاً منها، فنرى أن الكاتبة عملت على ملء الفراغ بين هذه الحكايات لتصوغها بشكل روائي مستخدمة الخصائص التقنية للرواية بجدارة من خلال الأحداث التي مرت بها حنان الرواية للرواية وشخصيتها الرئيسة.
تمكنت الكاتبة بروايتها من اظهار الألوان المعتمة والمخفية في المجتمع المحلي ومنها الحب العذري بين حنان والشهيد خالد الذي استشهد في الانتفاضة فوأد الاحتلال قصة الحب قبل أن تتبرعم وتنمو، وتسليط الضوء على العديد من المشكلات الاجتماعية مثل ما يسمى بالعنوسة ورغبة بعض النساء اللواتي يعتبرهن المجتمع عوانس وهو تعبير رديء وسيء بالحصول على زوج حتى لو كان متزوجاً، ولجوء البعض منهن الى دفع الزوج المنشود لتطليق زوجته الأولى وتدمير أسرة تحت تأثير عوامل نفسية في السيطرة وتحقيق الرغبة، وتعدد الزوجات والطلاق ورفض المجتمع له حتى لو كانت الحياة الزوجية على حساب كرامة المرأة ومن خلال اضطهادها من قبل زوجها ومن حماتها أحيانا، أضافة لتسليط الضوء على الجهل المتفشي لدى العديد من أبناء المجتمع ذكور وأناث بعدم الوعي والتعلم والثقافة، فتثبت بعض النساء نفسها من خلال سرقة زوج امرأة أخرى، والذكر من خلال اضطهاد المرأة وكأن الرجولة هي كذلك.
وأوردت العديد من النماذج للنساء سواء سلبية أو ايجابية كما شخصية أم ابراهيم التي استشهد زوجها في حرب 1967 وهي شابة صغيرة، ولكنها صمدت وقاومت وربت ابناءها ومنهم الشهيد خالد الذي استشهد في الانتفاضة، لم تكن متعلمة ولكنها صمدت رغما عن كل الضغوط عليها وخاصة من كانوا ينظرون اليها أنها فريسة سهلة الصيد، وكيف حوربت حنان من أخواتها حين نالت الطلاق وكيف حاربها طليقها وأسرته بإطلاق الاشاعات عليها والمساس بشرفها حتى أصبحت زميلاتها في العمل ضدها وتم انهاء عملها رغم تفوقها فيه، فالمؤسسة والتي تعمل بها ومن المفترض أنها مؤسسة لحماية المرأة، تكون ممن تضطهد حنان وتفصلها بسبب هذه الشائعات المغرضة، مما أوقع حنان بالضيق المادي والوحدة في المجتمع فتقرر الهجرة إلى أوربا والعمل هناك لتحظى بحياة كريمة وتتمكن من تغطية مصاريف ابنتها في دراستها الجامعية وغربتها، وهذا ما يؤكد أنه في مجتمعنا المرأة هي عدو المرأة، وأن مؤسسات المجتمع المدني المتخصصة بالمرأة قد فشلت بتحقيق اهدافها، وأن المعنيين فيها كان يهمهم الحصول على المال والدعم ولا يهمهم البرامج التوعوية؟
هذه الهجرة التي تنقلنا إلى أوروبا وإلى فرنسا المسرح الثاني ونماذج من العرب هناك أو الأجانب، واختلاف الحياة والتعامل بين الناس ومع ذلك ظلت روحها محلقة بالوطن الذي غادرته فتقول: “مع كل مساء كنت أرى الوطن، لا أذكر أنني استلقيت يوما على الفراش دون أن أراه، أحمله في قلبي أينما حللت وارتحلت، بكل ما يحويه وبكل ما يملكه من ماض وتاريخ وحاضر” وتكمل الحديث عن القدس بالقول: “آه لو ترتدي الطريق إلى القدس روحها، وتشارك أبناءها الذين غادروها رغبتهم في إيجاد الدرب اليها، فتفيض بالدفء عليهم، وتقود خطاهم إليها حرصا على بقائهم وبقائها”، وفي هذه الفقرة تؤكد الكاتبة على ضرورة التمسك بالوطن والتجذر فيها، فمن أهداف الاحتلال تضييق الحياة على السكان لدفعهم للهجرة من الوطن عامة ومن القدس خاصة.
وفي هذه الغربة وفي مؤتمر انتدبت لتغطيته اعلاميا بحكم عملها تعرفت على د. نادر رجل الاعمال الذي أعجب بالراوية في المؤتمر وتعارفا وعرض عليها الزواج ووافقت بعد ان شرح لها حكايته مع طليقته التي تهمله ولا تهتم الا بالعبادة والصلاة!!، والسؤال هنا كيف وافقت الراوية فورا على الزواج؛ وهي صاحبة تجربة مريرة ومطلة بحكم عملها السابق على تجارب كثيرة بدون ان تعطي نفسها مهلة للتأكد من كلامه، متأثرة بكلامه المعسول ووسامته مكتفية انها شعرت بالصدق في عينيه؟ وقد عاشت معه العام الأول من الزواج وسافرت معه الى لندن أسبوعين حيث عاشت بسعادة كبيرة، ولم يكن يشوش العام الأول وسعادته سوى سهره الليالي مع أصدقائه وعودته ثملا وهي تتلهى عن ذلك بالعمل بالصحيفة الرقمية، وحين تعاتبه يبتلع العتب ويزيله بكل لطف ورقة، حتى اعترف لها أنه أفلس ماليا وسيسافر للكويت لأنه سيخسر البيت وكل شيء لصالح الرهن المصرفي، ويترك البيت تحت بند السفر ولا يرد على رسائلها ولا اتصالاتها لمدة أسبوعين تعيش فيها حالات من القلق والألم والتعب الصحي والنفسي، حتى تفاجأ من الشرطة أن نادر كسب ثروته من القمار وخسرها في القمار وأفلس وقتلته عصابة يدين لها بالمال وهي تظن أنه رجل أعمال كبير.
وتعتبر الرواية من أجمل أنواع السرد النثري، وإن لم تكن معروفة في السابق بشكلها الحالي وعرفت في الغرب في وقت متأخر، وبدأت في المنطقة العربية بعد الترجمات للروايات الغربية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وعرفت الرواية بأشكالها المختلفة من السيرة الذاتية وصولا للرواية الغرامية والمجتمعية والسياسية والعقائدية والتوثيقية التاريخية، على شكل مجموعة من الأفكار والصور التي دارت في ذهن الكاتب وعبر عنها بالكتابة بأسلوب قصصي طويل وجميل، فتمكنت الكاتبة من ايراد شخصيات ثانوية بتأثيرات متعددة على الرواية وبأدوار مختلفة فمنها من له دور مهم ومنها عابر ولكن ليضفي على السرد الروائي جمالية وتصورات أخرى ولا يقصرها على الحدث المجتمعي بتناقضاته وقسوته، فنجحت الكاتبة بالحبكة القصصية والتنقل بين السرد والحوار والحديث مع النفس من خلال شخصية الراوية، والمفهوم البنيوي للراوية وهي الشخصية الرئيسة في الكتاب.
كما تفاعلت مع بناء الزمن الروائي بمفاهيمه النفسية والعلمية والطبيعية والدينية مميزة بين الزمن الروائي والزمن الخارجي للرواية، أضافة لاعتمادها قانون الإخبار والتطور وقوانين التطور المجتمعية من خلال نظام وأشكال ومظاهر السرد، ومن خلال السيطرة على العناصر في الرواية منذ العرض الأولى وصولا لمرحلة التأزم أو عقدة الرواية حتى الوصول للوضع النهائي، فنجحت الكاتبة بشخصية الراوية والموقع للشخوص والبناء الروائي والرؤيا التي تراها، فالرواية عبارة عن رسالة موجهة للمجتمع من خلال السرد، مركزة على الأبعاد الفكرية ومستوياتها لدى الشخوص ومدى تأثير المتوارث الاجتماعي عليهم، هذا الموروث الذي نراه يتغلب على الشرع وعلى القانون، مركزة أيضا على الجوانب العاطفية لدى شخوص الرواية سواء العاطفة البسيطة أو المركبة والمعقدة، ممتلكة شروط العمل الروائي من حيث وحدة الفكرة وتقنيات السرد والحوار بمستوياته اضافة للشروط الأخرى فتمكنت من خلق الحالة المنسجمة بين الكاتب والمتلقي.
من أصول الرواية كما اسلفت المكان والزمان وهنا كان مسرح الوطن وفرنسا ولندن كمسرح عابر، وأيضا الراوية حنان كشخصية رئيسة لم تترك المجال لشخصية أخرى أن تبرز بشكل موازٍ في الرواية بما فيها ماري صديقتها، اضافة لوجود العديد من الشخصيات الثانوية التي تراوحت أدوارها بين شخصية عابرة وشخصية مؤثرة، فنلاحظ اختفاء أي دور لشقيقها وهو الأخ الوحيد والمفترض أنه سند لها كما والدها، بينما زوجته وردت مرتين عبور عابر لم يترك اثرا، وشقيقتها هبة لم يكن لها دور سوى الحديث عن عقدها النفسية بإشارة عابرة بحيث لو غابت لم تترك أي أثر على السرد الروائي، والنساء اللواتي وردن في المقابلة كنماذج نسائية كانت مهمة ولكن جرى سلق الموضوع من خلال المقابلة والاستماع، وباقي الشخصيات الثانوية باستثناء شقيقتها غادة وطليقها عمر وزوجها نادر شعبان وصديقتها ماري وابنتها شروق والتي كانت فقط ابنة بدون دور أساس في الرواية، فكانت هناك شخصيات عابرة كانت الصدفة التي جمعتها بها وليس لها اثر كبير على الرواية وبعضها كانت نماذج نسائية من معاناة المرأة كوالدة الشهيد من زاوية وطنية وأسماء العاشقة المتمردة.
وفقت الكاتبة باختيار العنوان فالرواية تدور حول ما يدور في ذات المرأة فكانت الرحلة الى ذاتها، والتنويه في بداية الرواية أن الشخصيات خيالية حتى لو تطابقت مع الواقع، كان لا بد منه كون الكاتبة عملت فترة طويلة في مؤسسات المرأة وعرفت قصصا كثيرة فكان التنويه مهم حتى لا تتهم الكاتبة بالحديث عن أشخاص حقيقيين ويسبب لها اشكالات شخصية وقانونية، ويلاحظ أن الراوية بدأت بالحديث عن الانتفاضة الأولى والتي إنتهت باتفاقية اوسلو ومن بعدها تشكيل السلطة الفلسطينية، وأشارت لتأثيرات الانتفاضة ولكنها تجاهلت المرحلة اللاحقة تماما، رغم أن التأثير على الأرض الفلسطينية عامة وعلى القدس خاصة كان كبيرا، حيث تضاعفت عمليات هدم البيوت الفلسطينية، والاستيلاء على غيرها كما في الشيخ جراح وتضاعف حملة الاستيطان والاعتداء على الأقصى الشريف في محاولات قوية لتهويد القدس والسيطرة على مقدساتها، وربما كان هذا التجاهل مرده رغبة الكاتبة بإبقاء الرواية في إطار المشكلات الإجتماعية وعدم التوسع بمسائل سياسية وغيرها.
وفي ظل الظروف التي تعرضت لها بمقتل زوجها كان قرار العودة للوطن هو القرار الجميل كخاتمة للرواية مع الأمل ببدء حياة جديدة تتجاوز المراحل السوداوية السابقة فتقول: “فجأة تناهت إلى مسمعي أصوات مناجاة تنبعث من كل مكان، تتسرب إلى نفسي الثكلى وتناديني من بعيد: أيها الفلسطيني.. تعال وانزع غربتك الملطخة بأوجاع الحياة، تأكد من نبضات مدينتك ولا تغادرها، فهي تتألم بصمت، وتشعر بفقدان أبنائها كلما طال غيابهم عنها”، وتنهي روايتها بالقول: “أغلقت أبواب قلبي بإحكام وفتحت أبواب العقل على مصراعيها”، وأنهي حديثي عن الرواية بالقول أنني قد تشرفت من قبل الكاتبة الألقة صباح بشير أن أحظى بشرف تقديم روايتها الأولى التي قرأتها مرتين وهي مشروع رواية قبل الإصدار وباستمتاع وشغف، فأهمس للكاتبة صباح بشير: سعدت بقراءة روايتك والتقديم لها فقد وجدت الرواية وقعا كبيرا على روحي، فمبارك من القلب والأمنيات بمزيد من الألق.
“عمَّان 1/4/2023”