اضمن
ادبنقد

دراسَة لديوان  “وَرثتُ عنكِ مقامَ  النهاوند” للشَّاعر الكبير المرحوم “نزيه خير”                                 

دراسَة لديوان  “وَرثتُ عنكِ مقامَ  النهاوند” للشَّاعر الكبير المرحوم “نزيه خير”

(في الذكرى السنويَّةِ  على  وفاِتهِ)

 

(بقلم: الدكتور حاتم  جوعيه – المغار –  الجليل)

مُقدَّمة: الشاعرُ  والأديبُ المرحوم  “نزيه خير” من  أهمِّ شعراء الجيل الثاني وأبرزهم داخل الخط  الأخضر (عرب ال 48)  حسب تقييم ورأي جميعُ النقاد المحليِّن وفي العالمِ العربي، وكما جاءَ في مُقدمةِ الديوان للهيئةِ المصريَّةِ العامَّة للكتاب –  القاهرة – التي أصدرَتْ ديوانهُ هذا الذي نحنُ في صددهِ.

وأنا، بدوري، أعدُّهُ  في طليعةِ الشُّعراءِ المحليِّين منذ الجيلِ الأوَّل إلى الآن من ناحيةِ المستوى والإبداع  الشِّعري. ولكنهُ لم يحظ َ بالشُّهرةِ والإنتشار الكافي – عربيًّا وعالميًّا – ، فتوَحُّهُهُ وكتاباتهُ  لخدمةِ   شعبهِ  وقضاياهُ  المصيريَّة   وللأمَّةِ   العربيَّةِ   وللمواضيع   الإنسانيَّةِ  والأمميَّةِ   شاملة ً وليستْ مُقتصِرةً  فقط  ومُرَكزةً  لجهةٍ   سياسيَّةٍ  أو لإطارٍ   مُعيَّنٍ  .

يتميَّزُ  شعرُ  ” نزيه خير ”  بالتجديد  والأصالةِ  الإبداعيَّةِ  والقدرةِ  على التوظيفِ الدَّلالي للموروثِ الفكري والتاريخي العربي… مع المحافظةِ والإلتزامِ   في  خصوصيَّةِ  اللغةِ  وإيقاعِها  وجَرسِها الموسيقي  الداخلي مع  الإبتعادِ عن الإستغراقِ  في الغموض ِ والرُّموز ِالمُبهمةِ ، فيتوجَّهُ  ويخاطبُ  الأمَّة َ العربيَّة   ككل  ( الذهنيَّة  الجماهيريَّة  والمثقفة )  بالسهلِ  الممتنع.

وكما جاءَ في مقدمةِ الديوان: هو حالةٌ   ثقافيَّةٌ طليعيَّة خاصَّة وشاهدٌ ثقافيٌّ مميَّز ٌ على مُواجهةٍ يوميَّة يقفُ إزاءَها  دائمًا   المُبدعُ العربي الفلسطيني  المُلتزمُ  داخل فلسطين 48 (الخط  الخضر) وأمام ثقافة

أنجلو سكسونيَّة غازية تعملُ بشتى الوسائلِ على طمس ِ وتذويب  ِالإبداع ِ الأدبي العربي المحلي بجميعِ   الطرق ( المباشرة والمُلتوية).

فنزيه خير هو صوت ٌعروبيٌّ  وقوميٌّ يُجَسِّدُ  وَيُمثّلُ بحقٍّ وحقيقةٍ  المَدَّ  الثقافي  والأدبي  والفني المحلي المُلتزم  ويُمثلُ  الثقاففة العربيَّة التقدميَّة الرائدةَ وقدرتها على مُواجهةِ الآخرين في أوضاع وظروفٍ شاذَّةٍ  وصعبةٍ  واستثنائيَّة.

مَدْخلٌ: –   إنَّ ديوان “وَرثتُ عنكِ مقامَ النهاوند” يقعُ في 132 صفحة من الحجم المتوسط – إصدار (الهيئة المصريَّة العامَّة  للكتاب) يحوي مجموعة من القصائد المُختارة نُشِرَ  بعضُه  في دواوينهِ  السَّابقةِ، وهذه  القصائدُ  تتمحورُ  في مواضيع مُتعدَّدة:  السياسيِّة  والوجدانيَّة  والقوميَّة  والغزليَّة  والإجتماعيَّة  … إلخ .

لنبدأ  بالقصيدةِ  الأولى  من  الديوان  بعنوان  :   (   رسالة  شوق   – صفحة   5  )    فيها  يُحَدِّدُ  ويُوَضحُ  ” نزيهُ  ”   انتماءَهُ   القومي  وهويَّتهُ  العربيَّة  فهو  فلسطيني عربي  ينتمي للأمَّةِ  العربيَّة  قاطبيةً – من المحيط ِ  للخليج ِ   ،  حيثُ  يقولُ   :

( ”  مَسْكوُنٌ  بالعشق ِ الشَّرقيِّ  أنا

مُنذ   تناهَى  بَصَري //    وَأطلُّ   على  بحر ٍ  ونخيلْ

وَيدي مرَّتْ في وطن ِ الليلكْ //  وانتزعَتْ شوكة َ عبَّادَ الشَّمس // ومالتْ

وَسبيلي ظلَّ  في غيرِ  سبيلْ  //    مَنْ   يشفي  عشقكَ  هذا

بَصَري  –  قلتُ  لها  –

يتكحَّلُ  في  صبح ِ  الهرم ِ الأكبرْ

ويدي  //  أغسلها  في  ماء ِ النيلْ

ويقولُ  أيضًا :”  فصحتُ بأنَّ  الصحراءَ  تقاسمني جسَدَ  النخلِ  // ولونَ القمح  البني

ويقولُ  أخيرًا : ”  يتكىءُ  المَوَّالُ  العربيُّ  على   صيحة ِ  آه

ولماذا يتكىءُ التاريخُ العربيُّ على صيحةِ … واه  مُعتصماهْ ..؟؟ ” .

إنَّ  الصحراءَ  هي  رمز ٌ  للقوميَّةِ  العربيَّة ِ  وللأمَّةِ العربيَّةِ العظيمةِ  التي  كانت  في  يوم ٍ  من  الأيام ِ  تحكمُ  معظمَ بقاعَ  الأرض ِ  وتنشرُ  النورَ  والعلمَ والحضارةَ   على  جميع ِ الأمم ِ  والشعوب ِ  الأخرى  .    وقد  عاشت هذه  الأمَّةُ   ولاقت  الكثيرَ  وعانتت من جحافل  الطغاةِ والمُستعمرين الأجانب  ،  فلهذا  يتساءلُ  نزيه  :   لماذا الموَّالُ  العربيُّ  حزينٌ  يتكىءُ  على  كلمة  (  نغمة )  آه  ،  والتاريخُ العربيُّ  دائما   تنعكسُ وتنبثقُ  منهُ  صيحة  ” وا مُعتصماه ”  –  رمزا  للمساعدةِ والنخوةِ والإنقاذ ِ .      فالأمَّة ُ  العربيَّة  مرَّت  بالكثير ِ من  المآسي  والضيقات ِ  والنكساتِ   منذ ُ  كربلاء  إلى الآن   ،  مثل  :   غزو التتار  لبغداد   وللبلاد  العربيَّةِ  والإسلاميَّة  ،  والحروب  والغزوات الصَّليبيَّة  ، والإستعمار التركي ،  ثمَّ  الغربي فيما  بعد  ، ونكبة   فلسطين   ،   والهزائم   المتلاحقة  وحرب الخليج  ومأساة  الشعبِ  العراقي  وأطفالهِ  .. إلخ  .     ونزيه  هنا  يستجلي  الماضي  ويقرأ  الحاضرَ  ويأتي   ببعض ِ  العباراتِ  والجمل ِ الشعريَّةِ  المستوحاة  والمُستقاه  من  التاريخ  العربي  القديم    .

ولننتقل  إلى قصيدةٍ  أخرى   بعنوان  : ( الرَّعيل  –  صفحة  13  ) ،  وهي  عموديَّة على وزن ِ البسيط  كتِبَتْ  وأدرجَتْ جُملها على  سكل ِ شعرِ التفعيلة  ) ،  مهداة ٌ  إلى  الخرِّيجين  والخرِّيجات  في  نهايةِ  السنةِ  الدراسيَّةِ ،  يقولُ فيها  :

( ”  لا   تُوْصِدِ  البابَ  إني  عابرٌ  تَعِبُ      تنأى المسافاتُ في  وجهي  وتغتربُ

أكادُ  من  شجَني أبكي على  َشجَني      فهلْ    يعودُ   زمانٌ    طيِّبٌ    عذِبُ

فهلْ    أنامُ    قليلا    فوقَ   مقعدِنا      يا حاديَ العيسِ لا سارتْ  بكِ الرُّكبُ  …ويقولُ: أمضي ونافذةُ المجهولِ ترقبني     وفسحة ُ  العمرِ   تنأى   ثمَّ    تقتربُ

والقصيدة ُ   جميلة ٌ  وعذبة ٌ   وفيها  بعض ُ  التجديدِ  بالرغم ِ  من  كون ِ شكلها  الخارجي  كلاسيكي  ( تقليدي  )  ،  وفيها   يظهر ُ  شوقُ  الطالبِ    وحنينه إلى أيام ِ التعليم ِ  ومقعدِ الدراسةِ  الذي قضى  سنينا  من حياتهِ  وعمرهِ  عليهِ  (  قبل  التخرُّج ِ )  ويتحدَّثُ  في القصيدةِ  على  لسان  الكثيرين  من الطلاب  الذين  تخرَّجوا   ومجهولٌ غدُهُم  ومستقبلهم العملي والمهني  بالرغم ِ  من  كونهم  تخرَّجُوا  ويحملونَ  الشهادات  ،  فمصيرُهم  مجهولٌ   وفسحةُ   الأمل  والنجاح  تذهبُ  وتجيىءُ  ، وكما  أنَّ  نزيه   يقتبسُ  بعضَ  المصطلحات  أحيانا  وبعضَ  العبارات  الشعريَّة  ويُوظفها  في قصيدتهِ  ليدعمَ  ويوضحَ  فكرة ً يُريدُها  فيأتينا  بما هو جديد ومُبتكر وحسن   .          فقد أخذ َ مقطعا ً  من موشَّح  (  قصيدة  لإبراهيم  طوقان ) وكتبَ على  نمطهِ  شطرةً  جميلة ً ً  وضعَها  على  شكل ِ تضمين  ،  والمقطع من  قصيدة  إبراهيم هو  :

” يا  تينُ  يا توتُ  يا رمَّانُ  يا عنَبُ  ”  ،   ونزيهٌ   جاءنا  بكلماتٍ  جديدةٍ  ومعنى  جديد  ليدعمَ  فكرتهُ  حيثُ  يقولُ  :

”  هنا  تركتُ  كنوزَ  الأرضِ  بائسةً         يا  دُرُّ  يا  آسُ  يا  ياقوتُ  يا  ذهبُ”

..  أي  أنَّ  الطالبَ  تركَ  أعز َّ  ما  لديهِ  بعدَ  تخرُّجهِ  …  تركَ  احلى  سنين عمرهِ  وذكرياته  وصباباته ومغامراتهُ  العاطفيَّة وغيرها.. وزملاءهُ  ورفاق َ دربهِ  وأترابه    فهم  أغلى من  الآس ِ  والياقوت ِ  والذهبِ  .

وفي  قصيدة (  توشيحة  عراقيَّة  من  ألف  ليلة وليلة  صفحة  31  )  يتحدَّثُ فيها  عن  هموم ِ  الإنسان ِ العربي والوضع  الرَّديىءِ  والمُزري الذي  وصلت  إليهِ  الأمَّة ُ  العربيَّة   من   ناحيةِ  الذلِّ  والخنوعِ   وربطِ   مصيرها  بالأجانب  والغرباء    وفقدانها  كرامتها  ودورها  القيادي والتاريخي الهام  عالميًّا  ،  ويتطرَّق ُ  إلى  مأساةِ الشَّعبِ العراقي  ويُوظفُ  نزيهُ هنا  بعض َ الرموز  والإيحاءات التاريخيَّة   ،  ولكنهُ   في  توظيفهِ  هذا تبقى  معانيهِ واضحة ً جدًّا  ومفهومة ً ،  مفادُها  للهدفِ والموضوع  والفكرة ِ التي  يُريدُها   فهو  يستعملُ  السهلَ  المُمتنع  بالمعنى  الدَّقيق  ،  فيقولُ   في  قصيدتهِ مثلا   :

( ”  أنا  لستُ  مُتكئا   على  جرحي //    ولا  غردًا  ينوحُ   ببابِ  الطاق ْ

أنا  عاتبٌ  يشكو إلى  زمن ٍ   يهونُ  بهِ  الوفاقْ   //

هل عادَ أحفادُ البرامكةِ  الذينَ  تفرَّقوا  //   في عصر ِهارون ِ الرشيدِ إلى العراقْ

فأينَ  نبيتُ  يا  بغدادُ  ليلتنا  //  وأينَ  لنا   لقاءْ

ويقولُ :  أم أسْرَجَ الفضل  بن الربيع  حصانهُ … ؟  // أنا  لستُ مُتكئا على  جرحي //

//  ولكن    كربلاءْ    //

يا   ألفَ   ليلةٍ   إرجعي   //   ليلات عطرٍ   في  مجالس  شهرزادْ

هل  في المدينةِ  من  يردُّ  لها  الصَّباحْ  // هل  في المدينةِ   َمن  يَرُدُّ  لها  المساءْ “)

هو  يتساءلُ  هل عادَ  أحفادُ البرامكةِ  إلى العراقِ   … أي أنَّ الغرباءَ من  الأقوامم والشُّعوبِ  الأخرى  قد  دخلوا  شرقنا  وسيطروا  واستولوا على كلِّ  شيىء ٍ فيه  من ناحيةِ  الخيرات  والموارد  الطبيعيَّة  وعقول  ونفوس  المواطنين   ورقابهم  ،  وما  الحكام  العرب   سوى  دميةٍ   في  أيدي  الغرباء   والمستعمرين   وأصبحتْ  مجالسُ  شهرزاد  قفراءَ  فمن الذي  سيردُّ  لها المساءَ  والصباحَ  ويُعيدُ  لها  حرِّيَّتها وكرامتها .       ونحنُ  كعربٍ   تكثرُ  في   تاريخنا   المآسي  والنكباتُ  ،  حيتدثُ  يقولُ  شاعرُنا  :    ”  ولكن  كربلاء “.  فكربلاءُ  هنا هي رمزٌ لكلِّ  مأساة ٍ يكونُ  فيها  الجاني والمجني عليهِ  من  العربِ  أنفسِهم  .

ويقولُ  في  القصيدةِ  أيضًا  :

( ” يا  أيُّها  العربُ الذينَ  تسمَّروا  //     من أينَ أعطيكم  بقيَّة َ نخوةٍ

وبقاءَ  عاطفة ٍ   ومسحةَ  كبرياءْ  //

لم  يبقَ  إلا  أن  تعرينَ  العراقيَّاتُ  //  في وجهِ  البرابرةِ   الغزاةِ    صدورهنَّ

وبعضكمُ ْ  يلغُو   //   وبعض ٌ   في   ُسبَاتْ

يا  لأيُّها العربُ  الذينَ  تسمَّرُوا

كانَ  الفراتُ   لكم  مداخلَ  جنَّةٍ   //   وسياجَ  نخل ٍ  يميلُ   على  الفراتْ ” )… إلخ .

إنَّ الوضعَ  العربي  اليوم   ( الإجتماعي والسياسي والإنساني  )   لا  يُحسدُ  عليهِ  ،  فالأمَّة  العربيَّةُ  في تفككٍ   وتشرذمٍ   وتراجع ٍ وتخاذل ٍ  وغير  مُباليةٍ  لما  يجري حولها من أحداثٍ  جسام ٍ ، وشاعرُنا  يتساءلُ : من أينِ  سأعطيكم  النخوةَ  والعاطفة    النقيَّة   ومسحَة   الكبرياء   والكرامة   لتثوروا   على  الوضع ِ  المُزري  الذي  أنتم  فيهِ ، لأنَّ  معظمَ ( القيادة  العربيَّة والأمة ككل )  في  سباتِ  ونوم ٍعميق ،  والبعض  يلغو ،  ولكنَّ  لغوَهم  وخطبَهمْ  مجرَّدُ  كلام ٍ عقيم ٍ  ليسَ  لهُ  أيُّ  رصيدٍ عمليٍّ على أرضِ   الواقع ِ  ( بعض القادة والمسؤولين العرب )  .    فالغربُ   بذ َكائهِ   ودهائهِ  يجتاحُ كلَّ  شيىءٍ   ويغزُو  الإنسانَ  العربي  والشرقَ  من  ناحيةٍ  فكريَّةٍ  واقتصاديَّةٍ  وتيكنيلوجيَّةٍ  وإنسانيَّةٍ   ويستغلُّ  خيرات  الشرق  ويضعُ  العراقيلَ  والحواجزَ  أمامَ  الإنسان  العربي  حتى   لا  يصل  ويتطوَّر  علميًّ   وتيكنيلوجيًّا  وحضاريًّا  والقيادةُ  العربيَّةُ  مجرَّدُ  دُمىً   في  أيدي  السياسةِ  الغربيَّةِ  الإستعماريَّة  الأمبرياليَّة  توجِّهها كما  تشاءُ  .    ومع   كلِّ  ما  يجري  من  مآسي  وكوارث  وعدوان  لبعض   البقاع  والمناطق  في الشرقِ  العربي  فالأمَّةُ  العربيَّة ُ والحكام  العرب لا  يحرِّكونَ  ساكنا  لأنَّ  الغربَ يطلبُ  منهم  ذلكَ  (  من  الحكام ِ  العرب )  .   فلم  يبق َ  – حسب قول  شاعرنا  نزيه  –   سوى  أن   ُتعَرِّي العراقيَّاتُ  صدورَهنَّ   وتكشفُ  عن  نهودَهنَّ  وعوراتهنَّ  ومفاتِنهنَّ الجسديَّة في  وجهِ البرابرةِ الغزاةِ  وفي وجهِ الإجتياح  والغزو  الأجنبي  على  جميع ِ  أنواعهِ    .     والعراقيَّاتُ    (( منذ ُ غزو هولاكو  لبغداد  ))     أصبحنَ كرمز ٍ لكلِّ  بلدٍ  وقطر ٍعربيٍّ  يتعرَّضُ  لاجتياحِ ولغزوٍ  واعتداءٍ  أجنبي  .       وفي هذه  القصيدةِ  نجدُ عند  نزيه الصورَ الشعريَّة َ الجميلة َ الخلابة َ حيثُ  يقولُ   :

(  ”  كانَ  العراق ُ  إليكم  مداخلَ  جَنَّةٍ   وسياجُهُ  نخلٌ يميلُ  على الفراتْ  ” )

أي كانَ  الفراتُ  وما  زالَ  جنة ً  للقلوبِ والنخيلُ  يحيطهُ  كسياج ٍ  من  كلِّ  جانب   قد  تعرَّضَ  للقصفِ  والعدوان ِ   .     وفي  نهاية ِ  القصيدةِ  يقولُ   :

( ”   ورأيتُ    بيض َ   الهندِ    ُترفعُ   تارةً

وتردُّ  في  أخرى إلى  العربِ  الجوارْ

كانتْ  منازلهُمْ   تصيحُ … وخيلهُم   ترغُو …

كأنَّ  مَخاضَهُمْ  آتٍ… وأَنَّ محمَّدَ العربيَّ عادْ //

كانت فوارسُهُمْ  تقاتلُ  بعضَهَا  //   وملوكهُم ْ//  كانت  ُتحَاكِمُ  شهرزادْ //  ” )

ففي  نهايةِ  القصيدةِ   نرى  صبغة  التفاؤل والأمل  وأنَّ  المخاضَ  سيأتي  وترجعُ  للعروبةِ  الكرامة  والعزَّة  والحقوق  الكاملة  ،   وكانَّ  النبيَّ ” محمد ” رجعَ   وعادَ  (  بُعِثَ  من  جديد )   ليعيدَ   للأمَّةِ  العربيَّةِ    الوحدةَ   واللحمة   القوميَّة   والسُّؤدُدَ  والمجدَ  والقوَّةَ   والقيمَ  والأخلاقَ   والإلتزامَ  والإيمانَ    .

ولننتقل  إلى  قصيدة ٍ  أخرى   وهي  بعنوان  :  (  تصويغٌ  جديد ٌ لنشيدِ الإنشاد  –  صفحة  60   – على  بحر  المتدارك   ”  الخبب ”  )   ،     نظمَ  نزيهُ هذه  القصيدة  على نمط  نشيدِ  الإنشاد  الذي  لسليمان  الحكيم   ،  ولكن  بصيغة ٍ  وبأسلوب ٍ  جديدٍ  وبتوجُّهٍ  وبرُؤيا  جديدة   .    ويُدخلُ  إلى هذهِ  القصيدةِ  بعضَ  التعابير ِ والمُرادفات  والمواضع الجديدة  غير الموجودة   في  نشيدِ  سليمان  .  وهو  يتحدَّثُ  عن القضايا  العربيَّةٍ والقضيَّةِ  الفلسطينيَّة ،  ويظهرُ  تأثُّرُ  نزيهٍ  هنا بوضوح ٍ  بالكتابِ المقدَّس  .   وهذه   القصيدة ُ رائعة ٌ من  ناحيةِ  البُعدِ  الفني  والمعاني العميقة  والأسلوب الرَّشيق  الجميل  والكلمات  العذبة   الحلوة ،  وتحملُ  الكثيرَ  من الأبعادِ  والأهدافِ  الإنسانيَّة  والفكريَّة  والفلسفيَّة   والقوميَّة   .

يقولُ  فيها : ( ” أكرمني    بنشيدِ    العشق  //    وسَامِرْني   في  ليلِ  العِطرْ  //

قالتْ واحملني فوقَ ذراعِكَ الرَّاحمتين //  فأنا عذراءٌ يأخُذها السِّحرْ  //       ويقولُ فيها : ( ”  فأنا  سلطانةُ   أرضِ  العشقِ   وسوسنةُ   الوديانْ  //

َمنْ  يأكل  شهدي مع  عسلي  //  لا  يضرب  في  سيفِ  السُّلطانْ  //

بلْ   يضرب  لي عُنق َ السُّلطانْ  //   ” )

نحنُ  نلمسُ هنا  ونستشفُّ  روحَ المُقاومةِ  والتصَدِّي  للظلم ِ والطغيان  والثورة على  كلَّ  شرٍّ  وإثم ٍ  وعدوان  .         ويُنهي  القصيدة َ  بهذه  الكلمات   :

( ”   هنا  الحرسُ  الطائفُ  في  ساحاتِ  مدينتنا

لا  يعشقُ   وردَ  عصا  الرَّاعي  //   لا  يعرفُ  إلا َّ ضربَ  عصا  الرَّاعي

فتعَلّمْ  من  قلبِ  الإنشادِ  ومن   فرح ِ الأحزانْ   //

ما  يجهلُ هذا الملكُ الجالسُ في عرش ِالسلطانْ

مِنْ أنَّ جنوبَ الكرةِ الأرضيَّةِ // لن يرمز بعدَ اليوم إلى الفقرِ القاتل والحرمانْ //

وبأنَّ   كراسي  المدرسة   الشرقيَّة  //   تبدأ  من ألفِ  جنوبٍ  في  لبنانْ  // ” )

نجدُ  هنا   بوضوح ٍ البعدَ  الفكري  والقومي  والإنساني    ،  وأنَّ  العربَ  والشرقَ هم  أوَّلُ من  وضعوُا  الأبجديَّة  وعلموا   الناسَ  والأممَ   وأعطوا  النورَ والحضارةَ  والعلمَ والرّقيَّ للبشر أجمعين  وأنَّ  لبنانَ  يُعتبرُ أوّلَ  مدرسةٍ للأبجديَّةِ  في  الشَّرق  .

وفي  قصيدة ِ  (  مراثي  مدن  الشَّرق –  صفحة 47  –  )  يتحدَّثُ   فيها  عن  مآسي  معظم ِ الكتابِ والشعراءِ العربِ  وقضيَّة  هروبهم  من  وطنهم  وبلادِهم   إلى الدول    الغربيَّةِ  خوفا ً  من  سوطِ  الحاكم  وعقابِهِ  ،  مثل  الشعراء  الكبار  العمالقة   :  كالجواهري   والبياتي   وبلند  الحيدري   ومُضفر النوَّاب   ونزار  قباني   طالبين حقّ اللجوء  السياسي  …   وبعض  هؤلاء الشعراء  كانت  تربطهُم  صداقة ٌ وعلاقة ٌ  وطيدة  ٌ مع  الشاعر المرحوم  ”  نزيه  خير ”    ويقول   نزيه  في   قصيدتهِ  :

( ” أنا   الشاعرُ  الهاربُ بلندُ  الحيدري  // المولودُ  في العراق والمُقيمُ  في  لندن //

أتلفتُ   حولي ألفَ  مرَّةٍ وأنا  أسيرُ بينَ  بيتي  وبينَ   محطَّة ِ القطارْ  ” )

ويقولُ  أيضًا  : ( ”  وأنا  الشاعرُ  المنفيُّ  مجازا   نزار قبَّاني

المولودُ في سوريَّا  والمُتنقلُ  بينَ   جينيف   ولندن

تركتُ    لكمْ   دمَ   بلقيس على   حائطِ    بيروت !

ويقولُ  :   ( ”  وأنا الشاعرُ  المنفيُّ  إراديًّا  صديقكم  أبوعلي عبد الوهاب البياتي

أتمنى  ليلة ً أجلسُ   فيها على  الفراتِ  ولا  يأتي  أحدٌ  ببيان ٍ جاهز ٍ

لكي  أوقع    عليهِ  ” )    …   إلخ …  .                                      وهذه   القصيدة ُ   كتبتْ  بأسلوبٍ   تهكميٍّ   وحزين ٍ  للوضع  ِ العربي  قاطبة ً  وما  يعانيهِ    خيرة ُ   الكتاب  والشعراء    من    ظلم    وإجحاف ٍ   لمعارضتهم    وعدم رضائهم  للوضع  القائم ِ هناك  في ظلِّ الأنظمةِ  الرجعيَّة  القمعيَّةِ  ،  ولهذا   اضطرَّ  العديدُ  من  خيرة ِ  الشعراء  والكتاب والمفكرين والعباقرة العرب  المذكورين  أعلاه  للهجرةِ تاركين  وطنهم  ومسقط  رأسهم   طلبا ً  للتنفس ِ  وللحريَّة ِ   وللتعبير ِ  عمَّا  يجيشُ  في وجدانِهِم  وأحاسيسِهِم  من  هموم ٍ  وآمال ٍ  وأحلام ٍ وطموحات  ولواعج  إنسانيَّة    .  لقد  تأثَّرَ  ” نزيه خير ” شعريًّا  بالكثير ِ من الأفكار ِ التقدميَّة ِ  وبالكتبِ  المقدسةِ   ،  وتأثَّرَ  بشكل ٍ  خاص   بالديانة  التوحيديَّةِ  الدرزيَّةِ  وبالفلسفةِ   اليونانيَّةِ  والأفلاطونيَّةِ  الحديثةِ  التي   استمدَّت   الديانةُ   الدرزيَّةُ   منها  الكثيرَ   من   الآراءِ   والنظريَّات أسوةً  بالعديدِ  منَ المذاهب والفرق التي خرجت من الشيعة  ِالإسلاميَّة  .       وكما   أنَّ   ” نزيه ”  يأخذُ   بعضَ المفردات  والتعابير  والأمثلة  القديمة  ويوظفها  بشكل ٍ جيِّدٍ  في  قصائدهِ   ،  مثلا ً :    هنالك  البيت الشعري  القديم   لطرفةِ  ابن  العبد  البكري  من  معلقتهِ وهو :                                                                       (  وظلمُ  ذوي  القربى أشدُّ  مضَاضةً         على المرءِ من  وقع  الحسامِ   المهنَّدِ   )

وأما  نزيه  فيقولُ  في  قصيدةٍ   لهُ  مُخاطِبًا  وطنهُ   :

( ”  فالسيفُ  المرفوعُ   إلى  ظهرك  //  في  كهفِ  الأهلِ  وفي  كفِّ الأحبابْ

أقسى من  طعنةِ  سيفٍ  في  صدرك   من   كفِّ  الأعداءْ  ” )  .

وهنا  ، بالطبع   ،   فنزيه  جاءنا   بشكلٍ   وبشيىءٍ  جديد  وبرؤيا   جديدة  مبتكرة   ،  وهو  يعرف  كيفَ  يستفيدُ  من  الأمثلةِ  والمرادفاتِ أو المعاني  والصور  القديمةِ  والمألوفةِ والقوالبِ الشعريَّةِ الجاهزةِ وكيف يعملُ على تطويرها ويصوغها  ويصقلها  من   جديد  ويضيفُ  عليها  من  عنده   ،  من  خيالهِ  ،  وعبقريَّتِهِ   بما  يتلاءمُ  مع   الموضوع ِ  والهدفِ الذي   يريدُهُ   ومقتضيات  وأصول    التجديد   والابتكار  الفني  والأدبي  في العصر ِ الحديث    .     ومثالٌ   على  ذلك  قصيدته    ”  تصويغ  جديد  لنشيد ِ الإنشاد  ”   .     وقد   لفتَ  انتباهي  قصيدتهُ  ”  مديح  الشِّعر العالي ”   التي  فيها   يكيلُ ويلقي  اللومَ  والإنتقادَ  الشديدَ  على  الذين  يكتبونَ  شعرًا  عقيمًا   سخيفا   دونما  معنى  وطعم ٍ  ولون ٍ فيصفّونَ  ويرصُّونَ الكلمات  والجملَ والتعابيرَ المُبهمة  ادِّعاءً ( منهم )  في التجديدِ والحداثةِ  ويغرقونَ  ويتوغَّلونَ  في السَّخافةِ   والتخبيصِ  والدَّجل ِ والخزعبلاتِ  فتكونُ  كتاباتهُم  مُجَرَّدَ  هذيان   ولإضاعةِ  الوقتِ … وتعقيدا  وتخريبًا  للأجيالِ   الجديدة   الواعدةِ  ، لأنها  لا  تحملُ   (  كتاباتهم  وتخبيصاتهم )  أيَّةَ  رسالةٍ إنسانيَّة ٍ  أو  أدبيَّةٍ  أو  فكريَّة ٍ  للناسِ  ،  فيقولُ  نزيهُ  في هذهِ القصيدةٍ   :

(”  واسعة ٌ جدًّا  يا  خيمتنا  الفضفاضة   //   يا خيمتنا  الممتدَّةُ  في  ليل ِ العباسيَّين

إلى  مطلع  ِهذا العصر//   يدخلكِ  الخِسَّة ُ والدجالون  //    واصحابُ   اللحن  //    وأتباعُ   العُهْرْ //  لم  يبقَ  لدينا جمهورٌ يهتفُ  للشعراء //  فأينَ جماهيرُ الشِّعرْ  //

لم  يبقَ  لدينا  دجَّالٌ  موتورٌ    //   إلاَّ  واغتصبَ  الشِّعرْ

ويقولُ أيضًا :(” لكنكَ لا تفتحُ  في هذا الزمن السَّيِّىءِ بابا ً// إلاَّ وترَى مُتَّهَمًا بالشِّعر//

//  لا يعرفُ  كيفَ  الفعلُ  الماضي  //    ويكونُ   الأمرْ   //

ويُعلّمُ  جيلا ً  منَ  رُوَّادِ  الأمَّةِ   كيفَ  يكونُ الشِّعرْ  //  ” )…  إلخ …

هو  يتحدَّ ثُ عن الشعر ِ العربي عامَّة ً  ومراحل تطورهِ منذ   العصر ِ العباسي  إلى الآن  ،  وكيفَ   في  عصرنا  أصبحَ   الكثيرونَ  من  الدَّجالين   والدخلاءِ  على  الشِّعر ِ والأدبِ  ولا  يعرفونَ  الفعلَ الماضي  من   المُضارع ِ  والأمر يدَّعونَ  أنهم  شعراء   كبار  ويشوشون   ويعرقلون  المسيرة  الأدبيَّة   والشعريَّة  َ  العربيَّة َ   في   ادَّعاءاتِهم  وتعاليمِهم  العقيمةِ  ومفاهيمهم  الخاطئة  المُسِيئة   للأجيال   القادمة  عن  الكتابة   والشِّعر  والأدبِ  ،  لأنَّهُ  من  جَرَّاء ِ  ذلكَ  تتخرَّجُ    لدينا  أجيالٌ  مُشوَّهَة ٌ  فكريًّا  وأدبيًّا  وثقافيًّا  وفنيًّا   لا  تعرفُ  جوهرَ  وقيمة َ الشِّعر   الحقيقي   ومُقوِّماتهُ  الجماليَّة  والفنيَّة  والبلاغيَّة  وفلسفته  وجوهره الأساسي …. وحتى الناس – جماهير  الشعب  ( وهم  الحكام  الحقيقيُّون )  للشَّعرِ   والأدب   بدؤُوا    يبتعدونَ  ويتلاشونَ  ويختفونَ  عن  منصَّاتِ  ومهرجاناتِ  وندوات الشِّعر   والأدبِ   لأنَّ   الشِّعرَ  نزلَ  مُستواهُ  كثيرًا   (( إلى  الدَّرك ِ الأسفل ))     والكثيرونَ  من  الدجَّالين  والمُتطفلين  ودُعاة ِ الأدبِ    صاروا  شعراءً جهابذة ً   اليوم   ،   وبالكاد  ونادرًا  نسمعُ  صوتا ً شعريًّا  صادقا ً  مُبدِعًا    من   بين  آلافِ  الأصواتِ  النشازيَّةِ  ،  والناسُ   صاروا  يعتقدونَ  أنَّ  معظمَ  الشِّعر   العربي الآن  في انحطاطٍ   ورداءةِ  مستوى  .

ويُنهي   نزيه  خير  قصيدتهُ  اللتي  نحنُ  في  صَدَدِهَا   بهذه  الكلمات   :

( ”  اللهمَّ   اجعلني   جَوَّالا ً   //   تتحَدَّى  مُهرتهُ   الجامِحَةُ   كفَّارَ  الشِّعرْ   //

لستُ  نبيًّا  كي  آمرَ  في الناس ِ  ولكنْ  //   منْ   حقِّي  أن  أرفعَ   سيفي   //

كي  أحمي  مُدنَ  السِّحر ِ الممنوعةِ  من  مملكة ِ  الشَّعرْ   //    ”  )

ونزيه  في  نهايةِ   قصيدتهِ  وقفلِهَا  يذكرنا  بنهاياتِ   قصائد  الشاعر ِ العربي   الكبير  ” عبد  الوهاب  البياتي  ”  وكلاهما  يستعملان  الرموز الجديدة   والواضحةَ والمفهومة َ   لكثير ٍ  من  الناس ِ   .      ولننتقل  إلى  قصيدة ٍ  أخرى  صفحة  119  بعنوان  :  ” وراءكم  بيروت  ”  فيظهرُ  هنا  تأثُّرُ  نزيه  الكبير  بالكتاب ِ المقدس ِ ،  فيقولُ  مثلا ً  :

( ” يا  مريمَ  العذراء ألفُ  مرَّةٍ  ظهرت منازلُ المُعذ َّبين  //  َتمْسَحينَ   جرحَهم  //

وتمنحينهم   دربَ  الصُّعود  //   أقبِّلُ  المسيحَ  في  يديكِ  ألفَ  مرَّةٍٍ   //

أن  ُترجعِي  مُشرَّدًا  وتنطِقي  مكبُوتْ   //

أن تظهري في معبر ِالدمع ِ في بيروت ساعة ً // أن تظهري وُتنقذي  بيروتْ // )

وممَّا   يميِّزُ   نزيه   خير  عن   الكثيرين  غيره  من  الشعراء ِ  محليًّا  وعربيًّا   أنَّ  قصائدَهُ   قويَّة  متكاسكة   بعباراتها  وصورها الشعريَّة   ، وكل  كلمة ٍ  وعبارة ٍ  جاءت  في  مكانها  الطبيعي  الملائم  فمن  الصعبِ  أن  نحذفَ كلمة ً  من جملة ٍ  وبيتٍ   لهُ  ونضع  مكانها  كلمة ً  مُرادِفة  اخرى  لأنهُ  سيحدُثُ  تصدُّعٌ   في  البيتِ  وفي القصيدةِ  وهنا  َيكمُنُ   سِرُّ   قوَّة ِ وعبقريَّةِ الشاعر  ،   وهو  من  أفضل  الشعراءِ   العربِ  الذين   تميَّزوا  وتفننوا   بتوظِيفهم   الدَّلالي  للموروثِ   التاريخي  والشَّعبي  والأدبي   في  تجربتهم  الشِّعريَّة ِ    .   كما أنَّ  بعضَ  القصائد  عند  نزيه  نراها  قصائد   دائريَّة   …  أي  أنهُ  يبتدأ ُ القصيدةَ   بمعنى  وبجملة   وفكرة   مُعيَّنة  ويقفلُ  القصيدة َ  وينهيها   بنفس ِ المعنى  أو العبارة  أو  ما  يُشابهها    ،  مثالٌ  على  ذلك  في  قصيدته ِ  :  ”   الطريق  إلى  أبنود  –   صفحة   52  ”    ،   وهي  مُهداةٌ   إلى الشَّاعر ِ العربي  الكبير    ” عبد  الرحمن  الأبنودي  ”   ،  ومطلعها  :

( ”   يأتي   قطارُكَ   في   الصَّباح ِ  إلى   الصَّعيدْ

ويعودُ مُحترقا ًعلى شوق ِالرُّجوع ِإلى الصَّعيدْ  //

هيَ  غيمة ٌ  تأتي …  ويحتضنُها   الندى  //  فتعودُ  أبنودُ  القديمة ُ من جديدْ //

ويُنهي القصيدة َ على هذا الشكل  :

( ”    إنِّي   أراكَ   بكلِّ   حلم    عائد ٍ //  يأتي على شوق ِ الرُّجوع ِ إلى الصَّعيدْ //

هيَ غيمة ٌ تأتي ويحضنها الندى  //  وتعودُ   أبنودُ   القديمة ُ  من جديدْ   // ” )

ومن  قصائدهِ  الجميلةِ  في  هذا الديوان  أيضًا : قصيدة   (  ثلج  على  كنعان   –    صفحة 103 ) وهي مهداة ٌ إلى الشاعرِ الكبير المرحوم  محمود  درويش ،  ويتحدَّثُ  نزيه  فيها  عن  الغربة ِ والحنين  إلى  الوطن  ،  ويُخاطبُ  محمود درويش  مباشرة ً   ،   كما  أنَّهُ  يأخذ ُ  بعضَ المفردات والعبارات  من  قصيدة  محمود   (  مديح  الظل  العالي  )  ويدخلها  إلى  قصيدتهِ  كتضمين  ٍ ليدعمَ  فكرتهُ  والهدفَ  الذي  يُريدُهُ   ،  فيقولُ  مثلا   :

( ”  من  أينَ  يأخُذكَ  الحنينُ  إلى منازل ِ شهرزادْ

قلْ  لي … واركضْ  حافيًا  //   حتى  اقيمَ  لكَ البلادَ على  البلادْ

ثلجٌ على الدنيا… يَمُرُّ منَ الجليل ِ وأنتَ بي // خيط  تعلقَ في شرايين ِالفؤادْ //

لا الوردَ  كانَ  أقلَّ حينَ  َلمَستهُ  //  كانَ الأملُ هو الوقوف على منازلِ  شهرزادْ // )       ويقصدُ   بالثلج ِ  هنا  الجُمودَ  والقهرَ والألمَ  والظلمَ  المُحدقَ  بالشعبِ  الفلسطيني  ،   وأما  الوردُ  فهو  الأمل  ،  ويوجدُ   ديوان  شعر  للمرحومِ  محمود  درويش  اسمهُ   ”  وردٌ  أقل  ”    فأخذ َ  نزيه  هذا  العنوان  ووظفهُ  كتوريَةٍ   مُستحدثةٍ  ليرمز  إلى  فكرتهِ  وموضوعهِ  الذي   يُريدُهُ    ،    والقصيدة ُ  بشكل ٍ  عام  رائعة ٌ  في  معانيها  ومستواها   الفكري  والأدبي  والفني   تغذيها  الصورُ   الشعريَّة   وتترعُها   الصورُ  الشعريَّةُ   المُبتكرةُ  الخلابةُ   .   ومن  أجملِ  قصائد هذا الديوان قصيدة ٌ بعنوان  :

((  وجهُ  أسماء . ..  عرس  شجرة  الدُّر  –  صفحة  79  ))      يتحدَّثُ   فيها   عن  الإنسان  الفلسطيني المقاوم  والمناضل  الذي   صنعَ  المستحيل   وحققَ إرادتهُ  رغمَ  الظروفِ   والأوضاع ِ   التي   كانت   دائمًا   ضدَّهُ  …   ( محليًّا  وعربيًّا   وعالميًّا  واستراتيجيًّا  وعسكريًّا ) ،  والقصيدةُ  على وزن  الكامل  ، يشُوبُها الطابعُ  الخطابي  المنبري  والمباشر  نوعا  ما  ،   فهي  حماسيَّة ٌ  إلا  أنها  عميقة ٌ  جدًّا  في  معانييها  وتوجُّهها وأهدافها ، غنيَّةٌ   بالرموز  والتعابيرِ البلاغيَّة  الجميلة والجديدة  وبالصور ِ  الشعريَّة ِ  المُكثفة  والمُستحدثة ِ     ،    ونزيه   دائمًا   يستجلي  التاريخَ   ويستقرؤُهُ  ويصيغُهُ  من  جديد   ويُوظفُ  رموزَهُ  وأسماءَهُ   وأحداثهُ    بشكل ٍ   جديد ٍ  مُلائِمًا  لطبيعة   العصِر  الحديث   وبرؤيا   تقدميَّةٍ   إنسانيَّة   قشيبة  تتواكبُ   وتتناغمُ  مع  موكبِ  الإبداع  والمَدِّ  الثقافي  الحضاري  والشِّعري  والفني  المُعاصر  ،  وهذا  ما  يُميِّزُهُ   فنيًّا   وإبداعيًّا  عن  جميع   الشعراءِ  المحليِّين  …  وحتى   الشعراء  العربِ  قاطبة ً  .   ويقولُ   في  القصيدة ِ  :

( ”  إبدَأ   بما  اختارَ  العديّ  فأوجعَكْ  //   واقرَأ  على  الزمنِ  الرَّديءِ   وصيَّتكْ //

لا  أنتَ  من  سقطِ  المتاع ِ  ولمْ  تهُنْ  يومًا  لغدر ٍ  أفجَعَكْ   //

أنتَ  العديُّ  إذا  النوازلُ  أقبلتْ  //  ورؤاكَ  أغنيةٌ  ووردٌ  أطلعَكْ  //

إنْ  غبتَ   عن    مُدُنِ   الحمامِ    //  أتى     الجنوبُ      وأرجعَكْ   //     ” )

ويقولُ :  يا أيُّها البطلُ الفلسطينيُّ مُدَّ لها يدَكْ // يا أيُّها البطلُ الفلسطينيُّ مُدَّ لها يدَك//

تمشي    خيولُ    الشام ِ    خلفكَ    //    وتُسلُّ   بيض ُ   الهندِ   عندكَ    //

والنواهلُ  أسرجتْ  كي  تسمَعَكْ    //

تأتي  قريشٌ  وأهلُ  مكة َ   بعدها  //  وَترى ابنَ  ثابتَ  شدَّ حولكَ  سيفهُ  //

ورَمى   ببردتِهِ   عليكَ   وبايعَكْ   //

ما   كنتَ   من   سقط   ِالمتاع ِ     //  ولم  تهن   يومًا   لغدر ٍ أفجعَكْ    //

فبأيِّ     عصر ٍ    خبَّؤوكَ     //        وبأيِّ       عصرٍ      أيقضَكْ      //

وبأيِّ     ليل ٍ    غيَّبوكَ     //              وأيُّ     صُبح ٍ        أطلعَكْ      //

حَجَرٌ على  حجرٍ  يُشَيِّدُ  دولتكْ  //

في  ساحة ِ  الدنيا   تراوحُ  ضجَّةً    //  وجميعُ   ما   فيها   معَكْ         //

والعادياتُ        نواصبٌ            //     وأنا  معَكْ … وأنا    معَكْ   //  ))

فالقصيدةُ  رائعةٌ  تجسِّدُ  قضيَّة َالشعبِ الفلسطيني  ونضالَ  الإنسان الفلسطيني  ضدَّ الظلم المُحدق بهِ وكفاحه الدَّؤُوب لأجل  قيام  دولته العتيدة بالحقِّ والصَّبر والحجر ِ .

وفي  هذه  القصيدة   يوجدُ   كلُّ  مقوِّمات  الشعر  الرائع  الخالد   من   وزن وإيقاع ٍ جميل ٍ  منسابٍ  ولغة ٍ راقيةٍ   جزلةٍ   متينةٍ   وصور شعرية  غنيَّةٍ  وجديدةٍ   وتعابير  ومصطلحات بلاغيَّة جديدة  ،  وصور  ورموز  وأسماء وتعابير مستمدَّة  ومستوحاة  من التاريخ  العربي المشرق  ،  حيث  وظفها   بشكل ٍ  صحيح ورائع ٍ لدعم ِ  الفكرة ِ والموضوع وتسلسله للوصول ِ بالقصيدةِ إلى  قمَّةِ  العمل ِالفني المُتطور والإبداعي .

لقد   تأثَّرَ  ” نزيه  خير ”   نوعًا  ما  ببعض   الشعراءِ العرب  الكبار ،  مثل :  عبد  الوهاب  البياتي  والسيَّاب  وبلند  اليدري ، وبالشاعر والناقد  الفلسطيني الكبير  الدكتور  ” عز الدين  المناصرَه ”  ،  وخاصّة  في  قصائد   جفرا  وفي  كنعانيَّتهِ  ،  وربما   قليلا ً بمحمود  درويش …  ولكنهُ  استطاعَ  أن يستفيدَ  من  تجربتهِ الشعريَّةِ وثقافتهِ   الواسعةِ    (  الأدبيَّة  والعلميَّة  والحياتيَّة  )    وأن    يشقَّ    لنفسهِ  طريقا  مستقلا ً جديدًا رائدًا  في عالمِ الشعر  مُمَيَّزًا عن  جميع  الشعراءِ المحليَّين قاطبة   .   ولستُ  أبالغُ إذا  قلتُ   أنَّ  نزيه  هو  صاحبُ  مدرسةٍ  مستقلةٍ   في  الشعر   مميزةٍ  متطورة  لها  أسسها  وأهدافها  وسحرها  ونكهتها  وطابعها  الفني الخاص  والمنفرد  والمميَّز ..   وخاصَّة ً  في  صددِ  استجلاء  التراث  التراث  وقراءة  التاريخ  العرب  وإدخال  رموزهُ  وعناوينهُ  وحوادثهُ  وتوظيفها  في  شعرهِ  وقصائدهِ  بالشكل ِ الفني التكتيكي  الرائع    .   وكما  اننا   نجدُ  عند  نزيه  خير الموسيقى  الشعريَّة  الداخليَّة   الأخَّاذة َ والحادَّة  أحيانا ً   السَّاحرة  للنفوس  والمطربة للقلوبِ  والآذان  والمُهج  …  إضافة ً  إلى الوزنِ  الشعري الخارجي  الكلاسيكي  (  عروض  الخليل  المعروفة  )  فهو  متبحِّرٌ  في  اللغة ِ  العربيَّةِ   والصَّرفِ  والنحو  وفي  الأوزان  بالإضافة ِ  إلى  ثقافتهِ  الواسعةِ  في  جميع  المواضيع   والميادين  :  السياسيَّة  والأدبيَّة والإجتماعيَّة   والفكريَّة  والفنيَّة   ،   فكلُّ  هذهِ  الأشياء  مُجتمعة ٌ  مع   موهبتهِ  الشعريَّة   المتميَّزة  المتوقدة  الأصيلة  والفذة  صقلت  موهبتهُ  أكثر وأكثر وارتقت  بهِ إلى  قمَّة ِ الإبداع ِ والتجديد  والحداثة ِ .    وفي  قصائدهِ   الحديثة ِ   (  التفعيليَّة  )  نراهُ  كثيرًا  يستعملُ   الإيقاعات  والقوافي المنتظمة ،  وهذا يُعطي  قصائدَهُ  جمالا ً  فوقَ جمال ٍ  ،  وحتى  إذا   نوَّعَ   وعدَّدَ   ولوَّنَ  في  شكل ِ  القوافي  فيكون  بشكل   متقن   مُنتظم   مُنسابٍ  يتناغمُ   مع  الأذن  وذوقها    ومع  نفحات ِ ولواعج  النفس  والفكر  والوجدان   .         وديوان   نزيه  الأخير  هذا  (  ورثتُ  عنكِ  مقام  النهاوند  )  مثل   جميع   دواوينهِ  السابقة  ظلَّ  الهمُّ  العربي  هو  همَّهُ  والجرحُ  العربي  أينما  وُجدَ  وفي  كلِّ   مكان ٍ  هو  جرحهُ  النازف   .      ونراهُ  يحذو  ويخطو  بمنحى  واتجاهٍ  جديدٍ   وهو  التأثُّر والأستفادة   من   تعاليم ِ  وفلسفة ِ  مذهب ِ التوحيد  الدرزي   وتوظيفها   في   شعرهِ    وإثراء الفكر والأدب  بهذهِ الفلسفة الروحانيَّة العميقة   المُستمدَّة  من الفلسفة ِ اليونانيَّةِ  الأفلاطونيَّةِ  والتي  تعتبرُ  خطوة ً متقدِّمة ً  من الفكر ِ الديني الصُّوفي      .

ونزيه  في  تجاربهِ الشعريَّةِ  استطاعَ  أن   يُطوِّرَ  المفردات   ويُعطيها  ويمنحها  أبعادًا  غير  المعروفة   والمألوفة    ،    هذا  إضافة ً أيضًا   إلى   المحافظة ِ  على  وحدةِ  الوزن  واستخدام  القافية  الداخليَّة  وبتسكين القافية   والتكرار  اللفظي  الفني الجميل  المُمَوْسَق  لبعض   العبارات      .    ونجدُ  عندهُ  دائمًا    ،   في  شعرهِ   ،  الرَّغبة َ   في  الإلتحام   الفلسطيني   والمشاركة   في  العمليَّة   الثوريَّةِ   الفلسطينيَّة   والشعور القومي  العربي  والرَّبط  بين  القضايا  العربيَّة  والعالميَّة  والبُعد  الإنساني  في العديد  من الأمور   .     واهتمَّ  أيضًا  بالتزام  القافية  ،  ونرى  في هذا الإلتزام  أثرَ البياتي والسيَّاب  ونزار   قباني  ،  فيعطي  القصيدةَ   جمالا ً  وسحرًا  خاصًّا   .   والإلتزام   في  القافيةِ   لا  يعني  نفس  القافية   مُكرَّرة  دائمًا   ،   بل  وجود   قافية  حتى  لو  تنوَّعت  وتلوَّنت  …   واهتمَّ  نزيه   بالتوزيع ِ  المقطعي  للقصيدة   بحيث  يُتيحُ  الحريَّة  للشاعر   لتوزيع   أفكارِهِ    وصورهِ   الفنيَّة  …  وبعدها  العمل  على  جمعها  وصياغتها   كلها  في   قصيدةٍ  واحدةٍ    فتضمُّ  كلَّ  المقاطع  وتخرجُ    في  حُلّةٍ   جميلةٍ   مُتكاملةٍ   مُتألقة    فنيًّا  ومعنويًّا    .

وفي  شعرهِ  الإبداعي  يُضاهي   الشعراءَ  العرب  الكبار     مُستوًى  وتجديدًا  وحداثةً   وبعدًا  فنيًّا   ،  وهو  من  الشعراءِ   الأوائل   في  الشرق  الأوسطِ   بأجمعهِ  ،  ويحقُّ  لإنتاجهِ أن  يُترجمَ  إلى  لغاتٍ  عالميَّةٍ  عديدة  فمستواهُ  عالميٌّ  لأنهُ  خرجَ وتحرَّرَ من دائرة ِ الذاتيَّةِ  والإنغلاقيَّةِ  والمحدوديَّة  . ويُخاطبُ   في  معظم   أشعارهِ  ،  في  دواوينهِ  الأخيرة  ،   الإنسان  بشكل عام  أينما  وُجدَ، في كلِّ  بقعةٍ من بقاع  الأرضِ فشعرُه وكتاباتهُ لم  يُكرِّسْهَا  لنفسهِ   فقط   ولحبيبتهِ     أو  لمحيطهِ الضيِّق، بل تجاوزَ  حدودَ   المكان  والزمان  ليُحلقَ   إلى   قمَّةِ   القمم   ويتخذ   بعدًا  ميتافيزيقيًّا  وإنسانيًّا وأمميًّا  شاملا،  فشعرهُ  خالدٌ  يتواكبُ  مع المدِّ  والتطوُّر ِ  الإبداعي الأدبي.. خالدٌ  لجميع  الأجيال   ويصلحُ  في  كلِّ  زمان   ووقتٍ  ومكان    وفي  كلِّ  ظرفٍ  ووضع  وحالة    مهما  كانت  ميزاتُها  ونوعيَّتُها،  وهذه  هي مواصفات ُ وميزات ُ الشعر  العالمي،   وإضافةً  إلى  هذه  الأشياء    يَتَّسِمُ   شعرُ نزيه خير  ويتحلى  بالجمال  اللفظي  والبعد  الفكري   وبالقيمةِ  الأدبيَّةِ والبلاغيَّةِ  والمعنويَّة وبالمعاني العميقةِ  والمصطلاحاتِ والتعابير والرموز والمفردات الأدبيَّة والبلاغيَّةِ  المستحدثة وبإدخالِ  التاريخ  بمواكبهِ  وأحداثِهِ  ورموزهِ  وعناوينهِ الهامَّة وشخصيَّاتهِ ومشاهيرهِ  وتوظيفهِ، برؤيا  جديدةٍ فلسفيَّةٍ في شعرهِ وعملهِ الفني الرائدِ والرَّاقي والخالدِ.

(بقلم: الدكتور حاتم جوعيه – المغار  – الجليل)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock