اضمن
اخبار محلية

“خربطنا نبلّش”  حسن عبادي / الخليل-حيفا

“خربطنا نبلّش” حسن عبادي / الخليل-حيفا غادرت حيفا صباح 30 أيار 2021، في عز الكورونا، للقاء أسرى في سجن عسقلان، ونتيجة لأزمة مروريّة طال المشوار، وصلت وإذ بعدوّي اللدود “العدد” بانتظاري ممّا جعلني أتأمّل مشروعي التواصلي مع أسرى يكتبون. في غرفة المحامين بدأت أتكهّن مَن الأسير الأوّل الذي سألتقيه، ثلاثتهم خلايلي، فأطلّ الأسير خليل محمود يوسف محمد أبو عرام معتمرًا كمّامته فأزاحها جانبًا وبادر قائلًا: “وهاي كمان ابتسامة منتفضة لعيونك” ممّا حطّم كلّ الحواجز بلقاء “غريب” للمرّة الأولى. تحدّثنا عن الحياة اليوميّة خلف القضبان والكتابة من هناك ومشروعه الأدبي والثقافي؛ “معركة الكرامة والشرف”، “رحلة صداقة من المهد إلى اللحد”، وإصداره المنتظر: “القدّيس والخطيئة“، دراسة بحثيّة حول الحركة الأسيرة. حدّثني عن جولاته ورحلاته في شتّى أرجاء الوطن السليب، معزّزًا ومكرّمًا أكثر من حملة ال V.I.P مع حرّاس مرافقين يهتمون بكل كبيرة وصغيرة “وبدون تصريح”، وعن تحقيق العودة لأسرى عائلة أبو حميد، حيث نجحوا في تحقيقها عبر تواجدهم في سجن عسقلان، وعن الوضع داخل السجون، فالسجنة الأولى كانت لخمس سنوات وتحرّر بصفقة أوسلويّة ليعاد احتجازه من جديد منذ 2002. أبناء جيل الانتفاضة الأولى كبروا، وهناك مصنعان للإنتاج: السجون والجامعات ويتحسّر على تغيّر المناهج والأجندة. مرّ عام، وزرته ثانية يوم 20 نيسان 2022 وكانت السمّاعات معطوبةً، يبدو متعمّدا من السجان، ولكن الأمر لم يعطّل اللقاء. تحدّثنا مطوّلا حول تطوّرات “القدّيس والخطيئة”، تلك الدراسة البحثيّة حول الحركة الأسيرة، والإضرابات والخلل وضرورة التصحيح، واللعب ع المكشوف، وأنهينا النقاش برسالة الصديق جمعة الرفاعي: “خلّيك داعس”. بعث لي برسالة إثر تلك الزيارة عنونها “داعس رغم المعيقات” وجاء فيها: “حل زائري المتطوّع وعصف بيننا حديث ودّي وأكثره ثقافيّ وكأن المعرفة بيننا ليست وليدة زيارة… شدّني حديثه الشيّق عن الكتابة بل وأسرني هذا العصف الذهني ربما لأنني أميل للحديث في هكذا مواضيع أكثر من غيرها… وأبلغني بتلك الجملة التي تدور حول طباعة كتاب القديس والخطيئة والتي جاءت على لسان الأخ المناضل جمعة الرفاعي “خلّيك داعس”. عدت لزنزانتي بعد انتهاء تلك الزيارة وبدأت التفكير فيما جال من أحاديث، وكيف باتت زيارته ملهماً لي بتحوّل أوراقي وامتشاق يراعي، لأخط بهذه السطور التي جمعها العقل واستعاد تذكارها وترتيبها بعد تلك الدقائق وما كان لي أن أجول بها لولا هذه الزيارة وهذا العصف الذهني والفكري الذي دار ولذلك اشكره على زيارته أولاً وعلى تحريك ذاكرتي وإثارة شهيتي …وأنا حتماً سأبقى داعس.” عمل الجلاد على كيّ وعي ضحاياه من الأسرى، وحاول بنمطيّة تراكميّة تدجين الحركة الأسيرة وتمزيق لحمتها وتفكيكها داخل السجون كما نجح في بناء ذاك الحجاب الحاجز لصمّ آذان رجال السلطة وعمي أعينهم وتحجير قلوبهم تجاه مسألة الأسرى والشهداء وتحييدها وتهميشها فصارت كالجمر، يحاولون تجنّبها والابتعاد عنها كي لا تكويهم نيرانها. رغم ذلك فإنّ السجون هي المكان الذي حوّل الألم إلى أمل وإنجاز، والمعاناة إلى عطاء متجدّد، والجروح إلى فعل مقاومة وتحدٍّ يوميّ، والدم إلى إرادة وإيمان قوي وتقوى وصمود وبطولة، ومثل رافدًا حيويًا يضخ العزيمة والخبرات في الشعب والقوى المقاومة. تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان تجعله يحلّق ليعانق شمس الحريّة؛ هم في زنازينهم أكثر حريّة ممّن هم خارج القضبان، وها هو خليل أبو عرام يقتحم تابوهاتٍ مسكوتاً عنها، هناك داخل السجن وخارجه، ويقرع ناقوس الخطر وجدران الخزان؛ يصرخ صرخته منبّهًا  لسوسة الاختراق الأمني داخل السجن وخارجه، في صفوف الحركة الأسيرة وفي صفوف القوى والأجهزة الأمنيّة، ومحاربته وأدواته واجب وفرض وضرورة، ومحاولة مأسسة قيادة انتهازيّة بديلة، خليفة ووريثة لروابط القرى سيئّة الصيت، بلبوس مقيت آخر، ينبّه بجرأة يُحسد عليها للطامة الكبرى وهي الانقسام المقيت، وما يهدّد الحركة الأسيرة من تدخّلات إدارة السجن، بواسطة أعوانها، لتقوية طرف على آخر، زرع الفتنة بين الأسرى وبناء الإقطاعيات والإمارات داخل السجون وتحويلها إلى قلاع تابعة لأشخاص! وحين قرأت الكتاب جاءني ما تساءله قتيبة مسلّم بحِرقة: “عليكم أن تسألوا أنفسكم كقيادة عليا كيف يستطيع أسير داخل السجن، راتبه واضح، وخلال سنوات محدودة من أن يجني ثروة ماليّة ضخمة؟ تقدّر بملايين، لماذا لا تسألون أنفسكم أو من تعرفونهم جيدًا وبالأسماء، من أين لك هذا؟”. يتناول خليل أبو عرام واقع الحركة الأسيرة في عيون روّادها، نظرة جريئة إلى الداخل، شاهد على عصره، يصوّر لنا ببانوراميّة شموليّة صادمة الخلل والعطب الذي أصاب الحركة الأسيرة داخل سجون الاحتلال، بحِرقة قاتلة وبألم، وخاصّة ما يجري في صفوف فتح وقياداتها داخل السجون، بشفافيّة مِجهريّة، مركّزًا على الخلل، آملًا بإصلاحه قدر المستطاع، ويقولها بصريح العبارة: “يمكننا الاعتراف بأن واقع الحركة الأسيرة عمومًا والفتحاوي على وجه الخصوص قد أصابه الشلل وتدرج في التدهور والانهيار خطوة أثر خطوة منذ توقيع اتفاقية أوسلو… اختلطت الأوراق وبات التمييز بين الغث والسمين أمرًا صعبًا، والتفرقة بين العدو والصديق ضربًا من الخيال، خاصة وأننا بتنا ندرك أن البعض، ممن تولى مواقع الهرم القيادي للحركة التنظيمية للأسرى، انجر إلى مستنقع العمالة”. يؤمن خليل أبو عرام أنّ أشعّة الشمس هي المطهّر الأقوى، فاجأني وصدمني كتاب “القديس والخطيئة” لجرأته النادرة في محيطنا، وجدته يُزيح القناع ويكشف عري واقعنا عبر القضبان، ويوجّه صفعة مُدَوّية لرفاقه الأسرى ولكلّ القيّمين على الحركة الأسيرة، وكأنّي به يصرخ لكلٍّ منهم: “اصحوا وأفيقوا من فيلمكم”. أرفع لك القبعة يا خليل!!!” نعم، سمعت الكثير من أصدقائي الأسرى يقول: “المخفي أعظم”، وها هو أبو جهاد يكشف ذاك المخفيّ، ما يدور في الخفاء خلف القضبان، على حبل الغسيل، يسرّب خبايا وأسرار ما يدور هناك لعلّ أشعّة الشمس تطهّر ذاك الواقع البائس. وجدت الكتاب عبوة ناسفة مفخّخة جعلتني أتساءل: هل خليل أبو عرام كان “باحثًا” انتحاريًا؟ هل يريد تفجيرها ليكون شهيد رسالته الوطنيّة، ومن بعدي الطوفان؟ أم يريد أن يحوّلها لقنبلة صوتيّة لينبّه من حوله لظاهرة مستشرية في عالم الأسر تأكل الأخضر واليابس، ولا يستطيع أحد بعد الآن أن يقول: “أنا بريء من دم هذا المخلوق”؟ كتب خليل خلاصة تجربته، أدلى بدلوِه وكتب توصياته، ومن الجدير دراستها والأخذ بها، وينهي قائلًا: “نحن ندرك أننا مهما كتبنا لن نقفل كل الحلقات ولن نغطّي كافة الجوانب، إن بقي هناك أسرار قد تُكشف حالما يتم الجلوس معًا بين أفراد التفاوض جميعًا، وجهًا لوجه، أو في ظل كتابة كل واحد منهم ونشر تفاصيل تثير حفيظة الآخرين فيدفعهم للقيام بذات الفعل، حينها قد نكون فعلًا قد أدركنا ما يدور في سراديب التفاوض وخلف الكواليس”. حين أنهيت قراءة الكتاب، بجزأيه، للمرّة الثانية، وخلال وضع اللمسات الأخيرة لمشاركتي جاءني اتصال هاتفي من أحد الأصدقاء الأسرى الذين جاء ذكرهم في الكتاب فوجدتني لا شعوريًا أقول له: “خربطنا نبلّش يا حسام”. نعم، خربطات لا بدّ منها وعلينا أن نبلّش بخلط الأوراق من جديد. يقبع خليل في زنزانته، يقرع جدران الخزّان ويحلّق خارجها في سماء الحريّة المنشودة، لكنّه لم يتقاعد بعدُ؛ لأنّ مهمّته النضاليّة لم تنتهِ بعد، لم ينزل عن جبل أُحد، لم يُغْرِه مال ولا منصب، بقي حيث المهمات أصعب، صوته وأمثاله الأنقياء يشتدّ حضورًا في هذا الزمن الرديء. حقًا عزيزي خليل؛ لن يبقى في الوادي غير الحجارة. نعم؛ الحريّة خير علاج للسّجين. قلتها مرارًا وتكرارًا؛ تحرير الوطن بتحرّر آخر أسير من أسرانا، الحريّة لخليل وكافة رفاق دربه. ***مداخلتي في حفل إطلاق كتاب “القديس والخطيئة” للأسير خليل أبو عرام يوم الاثنين 19.12.2022 في الخليل.    

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock