حلم وعلم – قصة: ناجي ظاهر
حلم وعلم
قصة: ناجي ظاهر
(إلى اخي موفق في ذكراه.. رفقة طيبة وأحلام غالية)
تَضع الأم المهجّرة يدَها على راس صغيرها وتُمّررها على شعره الجزل الغزير، تتوجّه إلى ضيفها الملّاك الكبير، قائلة:
-أوشك صغيري على إتمام سنته الثالثة. بالأمس ولد.
يُرسل ضيفُها ابتسامةً ذات ألف معنى ومعنى:
-ولد ذكي.. شعرُه غنيّ.. جزل.. رأسه يشبه فروة خروف مرح.
يشرئب الصغير بعنقه باتجاه أمه:
-هل يُمكنني أن أحصل على خروف؟
تردّ الامُ موجّهةً صوتَها باتجاه ضيفها:
-مِن أين يا حسرة؟.. نحنُ لا نملك شروى نقير.
يضرب الضيف على صدره مُبديًا استعداده لإهداء الصغير الذكي خروفًا صغيرًا يليق بعُمره. تبتسم الام، هل هو يعني حقًا ما يقول، وهل هو المعروف ببخله، سيقدم خاوفًا لصغيرها.. هكذا لوجه الله؟.. ماذا يُريد هذا اللعين.. تلتقي العينان فيغمز لها بطرف عينه، تُبدي الام شيئًا مِن الامتعاض:
-سأقدم الخروف هدية للصغير.. لا أريد شيئًا مُقابله.. إفراح الصغار واجب. لا أريد شيئًا مُقابله.. العطاء لوجّه الله واجب.
ينقضي ذلك اليوم وينقضي يومٌ آخر. في اليوم الثالث تسمع الام في خُشّتها ثُغاء خروف في الخارج. في البداية لا تصدّق ما تسمعه، بعد قليل يعلو الثُغاء، فتحتضن صغيرَها رابطة بين صورتي شعره وفروة الخروف. يَنطلق الصغير إلى خارج الخُشّة.. ينطلق بقوة حلم عامر بالأمل. يرى الخروف، فينسى العالم، ويركز مشاعرَه كلَّها فيه. يُقلع في عيني الخروف الواسعتين إلى روابي أحلام بعيدة، يتذكّر ما سمعه من أمه عن قريتهم المُهجّرة. يتصوّر نفسَه في تلك القرية البعيدة.. القريبة.. يتصوّر أنه يركض في رُبوعها.. هو وخروفه. يُغمض عينيه ويحلم.
يُدخل الخروفُ الفرحةَ إلى الخُشّة المُهجّرة وأهلها الفُقراء المُعدمين. فالصغير يصطحبه إلى حاكورة البيت، يتبادل معه النظرات.. يشعر أن الخروف يفهم عليه، ولا ينقصه سوى أن ينطق. خلال ساعات.. يفهم مِن الخروف أنه فرح بالمقام معه وإلى جانبه، وأنه عرف الفرح بعد حزن قتّال في حظيرة مُهديه الملّاك. يتبادل الاثنان النظرات، لقد وقع الحب بينهما، وبات التفاهم واضحًا جليًا في كلّ ما يمور به المكان من حركات.. ايماءات وهمسات. يلمس أهل البيت، خاصةً الام، ما ربط بين ابنها وخروفه من ألفة.. تفاهم ومحبة، فيُكبِرون في صغيرهم ذكاءه وألمحيته. الصغير يلمس بدوره اهتمام ذويه هذا، فتخطر في باله صورٌ كثيرة وأفكار غزيرة.. وها هو يرسم الصور في الليل المُعتم الداجي ويشرع في تنفيذها في النهار المنوّر المفاجي. يُثيرهم ما يقوم به الصغير مع خروفه الغالي، فيتسللون على أطراف أقدامهم باتجاه الخيمة الصغيرة مُمزّقة الأطراف في حاكورة بيتهم، ليشاهدوا صغيرهم وخروفه وهما يبتكران أعاجيبهما المُذهلة. في إحدى التسلّلات يشاهدون صغيرهم وهو يروي قصة تهجير أهله مِن قريتهم سيرين، كما روتها أمه، وتعلو أفواههم الابتسامات الغامضة وهم يستمعون إلى وصفه للقرية.. ربوعها .. أشجارها ونِجادها الخضراء، “سنعود يومًا إلى تلك القرية”، يستمعون إليه وهو يُخاطب خروفه، بعدها يلفتهم الخروف وهو يهز رأسه علامة المُوافقة. يتراقص الصغيران في الخيمة فرحين، لقد فهم كلٌّ منهما على الآخر، أما الآتي فقد بات قريبًا.
يتهامس أبناء الاسرة متناقلين فيما بينهم ما يدور بين صغيرهم وصديقه الخروف، من آمال واحلام، تُعيد إليهم الثقة بالعودة، وفي غفلة منهم.. تنقل أوراق الأشجار تهامسهم هذا.. إلى آذان صاحب الخروف. فيُصرُّ على أسنانه ويُضمر أمرًا. يتوجّه مِن فوره إلى المتهامسين فيما بينهم مِن أبناء الاسرة، ويخصّ ربةَ البيت بحديثه، يحكي ويحكي ويحكي، وتفهم منه الام أنه يريد أن يستمع إلى ما استمعوا إليه من بوح اسطوري بين صغيرهم وصغيره. تحاول الأم التملّص مِن طلبه غير أنه يُلحّ عليها ” لا تنسي أن لي حقًا في معرفة ما يدور في حاكورتكم”. تبدو علامات الفَهم المقهور على وجهها، ولا تجد ما تردُّ به عليه سوى الموافقة لكن ليكن تنصتنا على الخيمة ثنائيًا، لا يحضره أحد غيرنا”، يبتسم المالك الضيف يبرم شاربيه يربّت على كتفها” هكذا أريدكم”. يتسلّل الاثنان على رؤوس أصابعهما باتجاه الخيمة الهامسة في الحاكورة وهناك يريان إلى ما يدور من مشاعر بين الصغيرين، الطفل والخروف. إنهما يحلمان بالضيعة والرابية، ويخطّطان كيف سيركضان في ربوعهما اليانعات الخضراء. يلفتُ ما يدورُ بين الاثنين مِن أحلام وأمنيات عذاب المالك الضيف، ويفاجأ بالاتفاق بين الصغيرين الحالمين على العودة إلى أرض الوطن. أكثر مِن هذا يُهيّئ الخروف متنه ليمتطيه الصغير فيقوم هذا بامتطائه، ليطير الاثنان مُتنقّلين بين شجرة وشجرة ووردة ووردة. يجن جُنون المالك الضيف.. يزيد في جنونه صدّ الأم الرؤوم له، فتنتابه جبال من الغيظ، إلا أنه يكظمها، شادًا على يده وصارًا على أسنانه.. مستسلمًا لعجز قاتل أمام حلم كبير.