تجريد المعاني.. الفن العظيم والغائب في المسرح العربي!!
هايل علي المذابي
بقدر ما أتابع العروض المسرحية بقدر ما أتابع أيضاً أفلاماً سينمائية ومسلسلات تلفزيونية منها القديم ومنها الجديد. وما يدهشني هو قدرات بعض المخرجين على التجريد. تجريد معاني النص إلى إشارات وعلامات وألوان أحيانا وأفعال وسلوكيات وزوايا وتقنيات تصوير وإضاءة. لكنها رغم ذلك تستخدم بترشيد بالغ، في كثير من الأعمال الفنية نظرا لإنها تتطلب الموهبة والاحترافية، فالتجريد للمعاني في فن الإخراج إحدى اثنتين فإما أن تكون موهوبا وقادرا باحترافية عالية على التجريد للمعنى أو لا تكون موهوبا وغير قادر على التجريد فتسير في طريق العاديين من المخرجين. إنها موهبة تتطلب الصبر على التأمل والقدرة على التركيز والتفكير العميق وملاحظة علاقات الأشياء ببعضها والمعنى الإجمالي من كل موجود؛ ولعل المسرح والحديث عن مسرحنا العربي الذي نشاهده اليوم في أمس الحاجة لاستيراد مثل هذه التقنيات من عالم السينما والتلفزيون العالميين تحديداً لا لشيء إلا لتطوير المسرح أولا وتحديث آلياته وزيادة جمالياته. بمعنى أجمل فإن فن التجريد في المسرح يعني تشيؤ الخشبة واستثمار كل محتوياتها بما فيها كل مكونات السينوغرافيا لتجريد معاني العمل المسرحي إنها موهبة أن تصنع أشياء كثيرة لقول أشياء كثيرة من أبسط الأشياء وأتفهها وجودا على الخشبة وفي فضاء العرض. وربما قد نجد لها وجودا في بعض الأعمال المسرحية العربية لكنها ضعيفة الحضور ومقتصرة على اللونيات والاضاءة ولكنها غائبة تماما عن تفاصيل الحركة في سياق العمل المسرحي.
أضع هنا بعض النماذج والمراجع للتجريد في عملية الإخراج الفني عن مسلسلات وأفلام سينمائية عالمية للاستئناس بها:
مثلا تجريد مأساة الجوع التي ستتناولها تفاصيل لاحقة في فيلم The 33 للمخرج باتريسيا ريغن بمشهد قصير تظهر فيه يد كريمة تضع طعاما لأحد عمال المناجم الذين سيسجنون في المنجم ويصيبهم الجوع لكنه يتكبر على تلك اللقمة فيكون هذا التجريد عميقا للمعنى الجوهري للفيلم وسياقات موضوعه.
ومن النماذج على التجريد في مسلسل الطريق الضال Breaking Bad مثلا:
مشهد عرض شراء مغسلة السيارات من قبل زوجة والتر وايت من صاحبها الذي كان وايت يعمل لديه وحين يرفض هذا الأخير تقوم زوجة والتر وايت بإغلاق شريط شنطة الملفات ثلاثي الجهات الذي يصدر صوتا عاليا وفي لقطة مقربة ومركزة على الشنطة تجريدا لمعنى أنهم سيجبرونه على إغلاق المحل لاحقا نهائيا أو يبيعه لهم. بريكينغ باد ج 4 ح 3
في مشهد آخر يظهر المحقق وهو يسلم المحقق الآخر ملف عن مذكرات قتيل وقبل فتحه يفتح المحقق التلفاز على مشهد لعبة بولينغ أحدهم يرسل الكرة فتسقط جميع القوارير باستثناء ثلاث فقط وكان ذلك تجريدا لمعنى أن العصابة التي استلم ملفها من المحقق للتو ستسقط باستثناء ثلاثة أشخاص فقط. بريكينغ باد ج 4 ح 3 د 32 و 33.
ويعتبر مسلسل الفايكنغ مدرسة في فن التجريد للمعاني وهو مليء بها منذ أول وهلة وحتى آخر قطرة في الجزء السادس وهي من الكثرة إلى الحد الذي يستعصي حصرها.
في فيلم ليزا Liza يتضح أن بطلة الفيلم ليزا الانطوائية من العائلة الثرية المولعة بتربية الحمام قد وقعت في حالة غرامية شاذة مع خادمة منزلهم القادمة حديثا، وقبل أن تقع ليزا في غرامها يتعمد المخرج أن يظهر بعد لحظة حديث لهما تجسيدا للمثلية الجنسية في لقطة للكاميرا مركزة جيدا حمامتان في حالة أشبه بالعناق إلى جوار بعضهما على رف عالي في سقف بيت الحمام يتطابقان في الشكل تماما تجريدا لحالة غرامية مثلية ستنشأ لاحقا بين ليزا وخادمة منزلهم.
في فيلم آخر “غابة الكونغ فو” يسبق مشهد العنف وملاحقة المجرم، البطل مع حبيبته وهما واقفان أمام نافذة ثم فجأة يتم التركيز عليهما فيظهران أحدهما عليه هالة حمراء وحبيبته هالة صفراء تجريدا لما سيحدث لاحقا فالبطل كان في وضع خطر ومطلوب دمه وحبيبته في حالة صفراء أي خطر يقتضي الانتباه كما هي دلالة اللون الأصفر وهذا تجريد لوني لقصة الفيلم.
في فيلم العطر تكون الألعاب النارية التي تضيء السماء بعد مشهد موت أول امرأة على يد غرنوي وهي بائعة الخوخ تجريدا لإعلان ميلاد غرنوي الفني في صناعة عطره الخالد.
عندما توقف فيلم Django Unchained في هذه اللحظة بالذات نعرف فقط لماذا قام المخرج تارانتينو بالتصوير من هذه الزاوية تحديداً. إنه التجريد للمعنى في أبهى حلة له.. فعندما ركب الدكتور شولتز وجانغو إلى Daughtry في ولاية تكساس، كان السكان المحليين يحدقون في جانغو بغرابة شديدة، الذي يخالف القانون فقط بسيره راكبا على ظهر حصان. يضع المخرج تارانتينو إشارة خفية إلى أن جانغو كان يُخالف قانونهم فجرد المعنى من خلال جعل رأسه يمر على دائرة حبل المشنقة لجزء من الثانية أثناء سيره على ظهر الحصان. فكان التصوير لهذا المشهد لتحقيق التجريد من الأعلى وليس من الشارع كما يفعل المخرجون عادةً.
المخرج تارانتينو يظل من 4-5 سنوات لينتج فيلما واحدا والسبب عشقه للتجريد والتفاصيل الهائلة التي يضعها في كل مشهد وشخصية. ليس من الضروري أن تنتبه لها ولكنه يفكر بها كثيراً. إنه رسّام يصنع لوحات فنية.
تقنية الصورة الضخمة
كان لرئيس الاتحاد السوفيتي الأسبق جوزيف ستالين صورة تجمعه مع مُنظِّر الشيوعية لينين وفي الصورة الأصلية بدى ستالين صغيرا في هيئته بجانب لينين لكنه عندما كان على عتبات الترأس للاتحاد وأراد أن يصنع لنفسهِ الدعاية المقنعة للفيف دول الاتحاد السوفيتي وصنع الهالة العظيمة لنفسهِ قام جهازه التقني المسئول عن الدعاية الإعلامية باستخدام تلك الصورة التي تجمعه مع لينين لكن بطريقة بارعة جدا فيد ستالين القصيرة (تشوه خلقي ولد به الرجل) تم مدها قليلا وحجمه الصغير بجانب لينين تم تضخيمه ليبدو ستالين أكبر حجما من لينين نفسه ولعل الصورة تلك اختزلت في حيثياتها ما حدث لاحقاً بالفعل عندما أصبح جوزيف ستالين على عرش الاتحاد السوفيتي.
هذا الأسلوب وهذه التقنية في إظهار الصور انتقلت إلى عالم السينما وتعتبر إحدى تقنيات التجريد للمعنى في عملية الإخراج الهوليودية مثلا في لقطة من مشهد في فيلم Minority Report “تقرير الأقلية” 2002 الذي يجلس فيه توم كروز مع أحد شخصيات الفيلم تم تصويرها في هذا المشهد على أساس أن تظهر أضخم من حجم شخصية توم كروز الشخصية التي تلعب دور بطل قصة الفيلم وفي هذه التقنية تجريد كامل لمعاني الفيلم وأحداثه فتلك الشخصية التي تم تصويرها بتلك الضخامة في المشهد ستمثل لاحقا في قصة الفيلم معضلة ضخمة جدا ونظرا لضخامتها فإنها ستسعى لإن تبتلع الجميع بما فيهم بطل الفيلم “توم كروز”.
إن التجريد فن عظيم وقدرات المخرجين مرتبطة بقدرتهم على التجريد. والمخرج العظيم هو أخصب الناس خيالا وقدرة على تحويل النص إلى علامات وإشارات وحركات.
السؤال: أين نجد مثل هذه التكنيكات الإخراجية في المادة الفنية العربية أولا؟ وفي أي عام مثلا قد نبلغ هذا المستوى من الفنيات الإخراجية عربيا على صعيد الشاشة أو على صعيد المسرح؟