اضمن
نقد

بين الادراك والوعي الباطني بقلم د. رضوان منصور

قرأت “شِعْروسِيَّة” الشّاعر الأديب الإعلامي أبي سليمان فهيم أبو ركن

“سادن الروح”، ابعاد عقائدية

بين الادراك والوعي الباطني

بقلم د. رضوان منصور

قرأت “شِعْروسِيَّة” الشّاعر الأديب الإعلامي أبي سليمان فهيم أبو ركن من خلال إصداره “سادن الروح”. وكم تليق التَّسمية بالمضامين الرّوحانية الّتي يشملها الكتاب ضمن تأمّلات ومناجاة من بعد مناجاة وكأن للرّوح حارس يحفظها، يقلق قلقها ويتألّم ألمها. تأملات بعمق البحار، شفّافة في نحتها اللّفظي الإبداعي ـ شِعْروسِيّة، حيث كان نصُّ الكتاب أحيانًا شعرًا، تارةً نثرًا وأخرى نصًّا مسرحيًّا. بشِعروسيّتِهِ هذه يسلّط الكاتب الضّوء نحو رؤية اجتماعيّة، نقديّة شموليّة ببعد زمنيّ آنيّ وميتافزيقيّ من خلال شخصيّة خياليّة مستوحاة من الفلسفة اليونانيّة الإغريقيّة القديمة، بشخص الفيلسوف سقراط، وعلى ما يبدو أن هذا الاختيار لم يأتِ من باب الصّدفة، ففي خوالجه عمق التّأمّلات الرّوحانيّة وفيه من العلقم ومن الرّحيق…

يجسّد سقراط فهيم، دور المصْلح الكونّي وحارسًا للمعايير وللمقاييس الاجتماعيّة والإنسانيّة الـمُثلى بشغفها للحياة الفاضلة، من خلال مشاهدات حياتيّة تترنّح بين الموجود والمنشود. يستهلّ سقراط فهيم مناجاته بمقتِهِ للموت المجازيّ الّذي من بعده موت ويتساءل لـمَ الحلكة وطول الليل الّذي لا يُعجل انجلاءَهُ والليل؟ والاستعارة هذه تُمثّل موت القيم والمعايير والابتعاد عن الحياة الإنسانيّة الخالصة الحقّة.  وتستطرد المناجاة هذه إلى نقاشٍ بين سقراط والشّـيطان حول المحبّة ومنارة الخير وميزان الضّمير، طالبًا إشعال المنارة المنبثقة من جوهر الواحد الأحد بنور هيولته الخالدة في كلّ آن ومكان.

ثم متمنّـيًا حضور العقل النّورانيّ كي تنجلي دماسة “الليل الطويل” جالبًا معه النّور والخير إلى هذا الكون… في هذا النّوع من السّرد يظهر عمق ومدى إيمان الكاتب بجذوره المعروفيّة التّوحيديّة! ولا يغيّر شيئًا فيما لو كان إدراكـيًّا أم إيحائـيًّا من عقله الباطني.

ثم يغوص في أعماق تساؤﻻت حول “الأنا” بأشكاله المتعدّدة وبعلاقته بالأرض الّتي تتمثّل بالوطن، بمسقط الرّأس، هنا نرى أبعادًا استثنائيّة “للأنا” قد تمثّل حيوات متسلسلة مستوحاة من لُبّ الإيمان التّوحيديّ المعروفيّ. وقد يوحي نصُّ الكاتب بأنَّ الوطن هو محطّ الرّوح المتقلّب المتغيّر لدى الأنا عبر حيواته.. بعدها يتابع الكاتب غوصه الرّوحانيّ متسائلًا أين حدود هذا الكون؟ ولاستعمال الحدود أبعاد وعمق إيمانيّ معروفيّ… وفي هذا التساؤل تمنّي وتطلّع لإحداث التّغيير، تتناغم هذه الأبعاد الرُّوحانيّة مع بعدٍ فلسفيّ حول ماهيّة وجوهر الوجود، أحيانًا بمناجاة مع ملائكة وأحيانًا مستنجدًا بإله الحبِّ والجمال على أنواعه، مترقِّـبًا إحداث المحبّة وإعادتها بين النّاس، ثم بشغف إلى نور روحانيّ، إلى إحياء النّفوس والأرواح الطيّبة، مُستعيرًا استعارةً مجازيّة الإله “كرونوس” محيها كحد تعريف الكاتب له ولما هو، إلّا أنّه سرعان ما يوَلّي ويأتي مكانه “أبولون” إله النّور والفنون الإغريقي ويستمرّ الصّراع بين القوى الخيّرة بهيئة روح سقراط ومسانديه وبين قوى الشّر بهيئة الشّياطين…

ويعود التّأمّل الفكريّ العميق إلى التّخبط بين المستقبل المحجوب وبين القدر المحسوب إلى مُناجاة حول حياة الخلود، الحياة الّتي تصبو إلى مسار الرّوح الخالدة والتّرقب لها… رغم أنّ البشر ضعفاء يفتقرون إلى النّقاء، إلى الصّفاء، خاضعون لمفاتن الإغراء ويخوضون مراحل الامتحان نحو الرّقيّ والصّفاء في خلواتهم المُتكـرّرة…

وروح سقراط فهيم، تصبو إلى المعرفة الخالصة وكم للمعرفة أهميّة قصوى في المضمون العقائديّ المعروفيّ مشجعةً إلى الغوص في أعماق بحر الحقيقة. ثم يسرد تَصَوّرَهُ في تحقيق الفضيلة المنشودة من خلال المحبّة والعدل بين النّاس، فكما تبدو هي قيم يتوق أن يراها في المجتمع البشريّ بينما الأحوال الآنيّة هادمة للسّراط المستقيم، سائرةً إلى مسار العدم بعيدة كلّ البعد عن النّقاء وعن الصّفاء الإنسانيّ الجوهريّ حسبما يرمز له نصُّ الكاتب.

ومن هذا الواقع الْمُرّ تدعو روح سقراط فهيم، إلى المحبّة بين الإنسان وأخيه الإنسان، من باب الإيمان العميق الواسع الْمُنبثق مما بداخله من جذور وإيمان فهو يصبو إلى حفظ الإخوان وإلى “سدق اللسان” بأوسع مصراعيها… لا يكتفي بهذا، بل يدخل إلى بعد الإدراك الإنسانيّ ومداه بكلّ ما يتعلّق بالحكمة العلويّة وكم لهذا الإدراك حيّز محدود القدرة. بُعد عقائديّ آخر يفسّر تذمّر الإنسان واستياءَهُ من التّوجّه والتّـفسير الخاطئ بأنَّ الباري لا يتدخَّل ولا يكترث لما يحدث ولإحداث التّغيير المنشود، ثـمَّ يعيد القارئ إلى العناية الإلهيّة وإلى التّرتيبات الإلهيّة القائمة والمتواجدة والتي تمنح الأمان للإنسان والخلاص والامتحان.

وفي نقاش يدور بين ملاكين قد أُرسلا من السَّماء البعيدة وبين روح سقراط فهيم، محاولين إقناعه بالسّمو معهم وبالارتقاء إلى الحياة الأبديّة والاستمتاع بها، يتطرَّق أحد الملائكة إلى يوم القيامة كتتـمَّة لماهيّة الحياة واصفًا إيَّاها بوقت سقوط الشَّمس ووقت الإطلالة الشَّرقيَّة.. وعندما يُنَصب الميزان، هنا يغوص الكاتب إلى أعماق بحار العقيدة التّوحيديّة مرَّة تلو الأخرى برموز شبه واضحة إلّا أنّها للبعض جليّة.

يشمل هذا الحوار أمورًا روحانيَّة عديدة في ماهيّة المعتقد، حول المسيّر والاختيار والمُخيّر، حول القسمة المكتوبة من الأزل وفق الفعل والعمل في مجرى الحيوات عبر الأجيال.. وعلى خلاص الرّوح من قيد المادّة وصولًا بها إلى النّور الحقَّة.. وقفات أخرى على أسس وأركان مركزيّة من خضمّ العقيدة والإيمان المعروفيّ.

وبشكل عام نرى بأن أُرسلت إلى روح سقراط فهيم، خمسة ملائكة سماويّة بعضها يحمل أسماءً إغريقيّة، كي تكون له عونًا في إصلاح ذات البين في هذا الكون. إله الحبّ والجمال بمعاييرها الظّاهرة والباطنيّة، ثم مُحيي الأرواح والنّفوس ومن بعده إله النّور والإبداع وليس اختيار النّور بعبثيّ كما وأنّ العدد خمسة على ما يبدو لم يأتِ من باب صدفة الاختيار ولا من عشوائيّة.. بعدها أتى روح سقراط اثنان من الملائكة لإقناعه في السّمو معهما والارتقاء إلى المكانة الّتي يستحقّها في الحياة الأبديّة. إلّا أن روح سقراط فهيم، رفضتِ السّمو هذا مؤاثرةً البقاء وعدم ترك الأحوال المزرية دون رقيب. وحين وضعت الملائكة أمام ناظريه إمكانيّتين؛ إمّا السّمو والارتقاء وإما تكرار شرب السّمّ مرّة أخرى ومن جديد، إلّا أنّه آثر الاختيار الأخير على أن يترك الأحوال المُزرية بمحض اختياره دون إحداث التّغيير المنشود…

هنيًّا لك يا فهيم على هذا العمق الرّوحانيّ وعلى الأبعاد الاجتماعيّة العقائديّة الّتي تطرحها في كتابك“سادن الروح” بإبداعات وبجماليّات لم نعهدها من قبل، فالعقائديّة والرّوحانيّة منها، جديرة بأن تُلقَّنَ في الحلقات البيتيّة المعروفيّة والجماليّات الأدبيّة الإبداعيّة جديرة بأن تدرَّس في مجالس الإبداع الفكريَّة والفلسفيَّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock