المهطوان حسن عبادي/ حيفا
المهطوان
حسن عبادي/ حيفا
وصلتني يوم 18.01.2022 رنقيّة مشفّرة من صديقي رمضان الرواشدة وجاء فيها: “مطوان حيفا…أو مهطوان حيفا”، فلم أفهم كنهها، وتوجّهت لصديقي الراحل حنا أبو حنا لأستفسر عن الأمر فجاءني جواب زوجته سامية: “طولو طول مطوان حيفا. مثل شعبي استعملوه أهل حيفا لشخص طويل القامة”، ووافته المنية يوم 02.02.2022، لروحه الرحمة والسكينة.
وفي يوم 06.03.2022 كتب لي رمضان أن الرواية صدرت وبعث لي بنسخة الكترونية، قرأتها بشغف، ووصلتني بعدها من عمّان نسخة من رواية “المهطوان” للكاتب رمضان الرواشدة (112 صفحة، تصميم الغلاف: يوسف الصرايرة، لوحة الغلاف: ياسر وريكات، إصدار: المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، (والشكر موصول للصديقة الكاتبة أسماء ناصر أبو عياش التي أحضرت الرواية من عمان والصديق الكاتب منجد صالح الذي أوصلها من رام الله). وكتب لي في الإهداء: “إهداء خاص، الى الصديق والأخ الغالي الكاتب حسن عبادي وزوجته الرائعة، محبتي وتقديري. رمضان/عمّان 20.5.2022”.
وهذا الأسبوع قرأتها للمرة الثالثة، فصرنا أصدقاء وجاءت قراءتها مختلفة بعض الشيء. أخذتني القراءة مجدّداً لكتبه التي قرأتها من قبل؛ “الحمراوي”، وأغنية الرعاة” و”النهر لا يفصلني عنك”، ورواية “جنوبي“، وكأنّي به يمأسس سيرة ذاتيّة له؛ يطلّ علينا متنقلًا بين الريف وعمان وفلسطين، يحمل كاميرا ثلاثيّة الأبعاد ليصوّر لنا بانورامياً الحالة الاجتماعية والسياسيّة التي سادت وتداعياتها.
تتناول الرواية مفهوم الهويّة عبر أحداث عاشها الكاتب، ويروي تفاصيلها بحذافيرها، معرّجاً على التحوّلات الاجتماعية والسياسيّة والاقتصادية والثقافية التي حدثت في الأردن في الثمانينيات، عبر تجربة أبطاله – عودة الكركيّ وسلمى الفلسطينية القادمة من رام الله للدراسة الجامعيّة فتقع في شباك حبّه ليشتبك الحب والعشق والرومانسيّة الحالمة والنضال.
اختياره للاسم عودة كبطل للرواية جاء موفّقاً بامتياز، وتصويره لشخصيّته وتصرّفاته، ورسمه على مقاسه، مستعملاً السخرية السوداويّة القاتلة.
يؤكّد الكاتب على عروبيّته واللحمة الفلسطينيّة الأردنيّة (فرمضان يمارسها فعلاً، لا قولاً، ولا ضريبة كلاميّة، فزوجته المقدسيّة ابنة زميلنا أبي عمر، جدّ أحفاده) وهذا ما نلمسه عبر صفحات الرواية، ما ظهر منها وما حاول تشفيره، ورسالته واضحة المعالم، نحن شعب واحد وأمّة واحدة، وهذا ما وضّحه من خلال ارتباط عودة الكركي الأردني وسلمى المسيحية الفلسطينية من رام الله ونتاجه ولادة نضال، ولم تكن محض صدفة استحالة اللقاء المرتقب بين عودة ونضال.
للكاتب قدرة رهيبة على الوصف، كما عوّدنا في رواياته السابقة، بأسلوب شاعريّ ولغته انسيابيّة، مستعيناً باللغة المحكيّة واللهجة المحليّة أحيانًا، دون أدنى ابتذال وشدّ عضلات، وخاصّة حين تناول العادات والتقاليد، والمأكولات مثل المدقوقة، والخبيزة والمجدرة والرشوف، فجاءت صادقة بنيويّة، وعلى سبيل المثال توظيف “طابة الشرايط” والفطبول والإبريموس وسيجارة “الهيشي” و”يا خوفي من آخرة هالقراية”(ص. 37).
راق لي توظيفه للموروث الشعبي دون خجل وتأتأة، قصة “طاسة الرّعبة “، على سبيل المثال، فحين لامست يد أخت عودة العنود “كبسة” الكهرباء قذفتها، فطلبت أمه منه أن يحضر ” طاسة الرّعبة”:
“صرخت أمّي بي: اذهب واحضر “طاسة الرعبة”.
. .. طاسة الرعبة؟ قلت: من أين؟
– من بيت جدّك، قالت أمّي.
ورأيتني أندفع إلى بيت جدي لأمي في الطرف الآخر من راكين، ركضتُ لا أعرف
ماذا سأحضر…
“طاسة الرعبة”…كنت أردّد في داخلي كي لا أنسى، وأنا لا أعرف ماذا تعني هذه الطاسة؟”(ص. 23).
وكذلك الأمر مع قصّة الأفعى التي تقوقعت في بطن عودة وطقس إخراجها (ص.8-27).
وظّف الكاتب الأغنية الشعبيّة والمواويل الجنوبية والميجنا الحزينة والجوفية بلباقة ليقولها بصريح العبارة؛ هذا تاريخنا وهذه حضارتنا التي تربّينا عليها ونعتز بها ونفخر ومنها ننطلق.
كتب رمضان بعفويّة وصِدق، فكلّنا علّقنا على حائط غرف السكن الجامعيّة صوراً للمشاهير، وصورة جيفارا كانت إلزاميّة في كلّ الغرف، وبروزها مع صورة الفرنسيّة صوفي مارسو بحنكة ولباقة، فالجامعي الثوريّ المطارد الذي يعتبر جيفارا بوصلته ومثله الأعلى يعشق الحياة ويستحقّها رغم الظروف القاسية وما يمرّ به، ورغم أنّ هناك من يحاول سحقها.
رافقتنا أغاني الشيخ إمام ومصطفى الكرد أيام الجامعة، وانتشيت حين جاء ذِكر صديقي كمال خليل وفرقته “فرقة بلدنا” وأغنيته “أحمد على الموت انتصر”، تلك الأغنية التي سمعتها بصوت كمال، بقعدات عائليّة خاصّة، في مشواريّ الأخيرين لعمان، ممّا يؤكّد صدق ومصداقيّة الكاتب، فلم يفاجئني أبداً أن ينهي الرواية بتكملة من نديمه الكاتب غسان الحوراني (شاعر الجامعة الذي صار كاتبا روائياً فيما بعد) ليغلق الدائرة بحنكة.
من معرفتي الشخصيّة بالكاتب وجدته مثقّفاً لأبعد الحدود، ملمّ بمسرحيّة “يهودي مالطا” وكريستوفر مارلو التي تتناول الصراع الديني والثأر، ومسرحيّة “حلم ليلة منتصف صيف” وشكسبير التي تتناول القانون الظالم، رواية “الأم” لمكسيم غوركي التي تتناول ظروف ثورة البلاشفة وكأنّي به يدعو لاتحاد المظلومين البسطاء والنضال ضدّ المستعمِر، على أشكاله، والمناضلة الروسية الثورية ناديجدا كروبسكايا (زوجة لينين وشريكة حياته ومشروعه الثوريّ) وفيروز وزهر بيلسانها، وجاء ذِكرِها بنيوياً دون ابتذال.
ملاحظة لا بدّ منها، أفرط في اللجوء إلى الشعر، ويبدو أنّنا كسِبنا روائياً وخسرنا شاعراً مغموراً.
أختم بما جاء في الرواية:
“قال لي ابن أختي الصغير: ارسم لي طيّارة حربيّة!؟
فتساءلت: الآن؟ وفي هذا الزمان؟ ماذا ستفعل بالطيّارة الحربيّة “واللي طبّع طبّع، واللي ربّع ربّع”!؟
وما أن كشّر محاولًا البكاء حتى بدأتُ برسم طيّارة حربيّة له، بانت نواجذه وهو يبتسم، وأدركت أنّني مستسلم لقدري الملعون”. (ص. 91)
*** مشاركتي في ندوة اليوم السابع المقدسيّة يوم الخميس 17.08.2023