الرائحة الذكية قصة: ناجي ظاهر
الرائحة الذكية
قصة: ناجي ظاهر
أغلق الفنان وحيد الرشّ باب غرفته. استلقى على سريره، حارصًا على ألا يُشعر زوجته في الغرفة القريبة المجاورة باستلقاءته الخفيفة اللطيفة تلك. نهض من سريره توجّه إلى بابها الموصد جيدًا. فتحه بتؤدة مَن خَبِرَ آثار وردود أفعال الآخرين جيدًا، خاصة حين لا يعجبهم شيء بدر عنه.. علمًا أنه لا يحبّ أن يضايق أحدًا ويحسب ألف حساب وحساب قبل أي حركة يقوم بها. تمعّن في أنحاء البيت النائمة. اطمأن على أنه الآن فقط.. الان.. أنه وحيد فعلًا لا قوًلا أو مناداة وحسب.. الآن بإمكانه أن يتصل بها.. بتلك المرأة الفنانة التي أعادت إليه نوعًا من الحياة وأملا أطلّ بشفافية على مغارته المُعتمة مثل شعاع كنفوشيوس المطلّ من آخر النفق المعتم. عاد إلى سريره.. متفكرًا في تلك الفنانة الجميلة الرائعة التي فتحت له أبواب الامل المُغلقة في وجهه دائمًا وأبدًا. بعد أن التقى بها في الجالري الفني البلدي. لشرب فنجان غير شكل من الاسبرسو. ها هو الآن يستعيد ذكرى تلك الدعوة ويبتسم. لقد شرب يومها فنجان الاسبرسو بتؤدة مَن لا يودّ إنهاء شربه ويريد أن يطول الوقت أكثر فـ.. أكثر. نظراتها إليه أيقظت الرجل الفنان الهاجع منذ ما ربا على الأربعين عامًا. لقد هرب من سنواته الفظّة القاسية إلى كلّ مكان تمكّن من المضي إليه، وكان لا بدّ له من أن يرتبط بامرأة. فالدنيا لا تبتسم لأبنائها كثيرًا. وعليك ان تلحق نفسك. الفن في هذه البلدة يزيد مشاعر الوحدة ويفاقمها.
تحرّك في سريره معانقًا وحدته. لقد اعتاد على النوم وحيدًا بعد أن تسلّل الملل بطيفه اللصيّ الثقيل في غفلة منه إلى حياته الزوجية. ما دفعه أن يفتعل جبلًا من الاسباب لأن يقنع حليلته بأنه من الأفضل لكلّ منهما أن يأوي إلى غرفته وينام فيها وحيدًا. تحرّك مرة أخرى في سريره. صورة تلك المرأة الفنانة تلاحقه. لقد اقترح عليها أن تتصل. غير أنها لم تفعل مع أن إقبالها عليه كان واضحًا وظاهرًا للعيان. “هي مَن دعتني لشرب الاسبرسو وهي مّن بادرت للجلوس إلي”، قال لنفسه وتابع” ترى ماذا بإمكاني أن أفعل؟.. وخطرت له خاطرة جهنمية طالما وجهته وأرشدته إلى ما يمكن أن يفعله ويفلح فيه.
تناول خليويه وضغط على رقمها فأتاه صوتها الفنيّ الغنيّ راغبًا رنانًا” أهلا بك.. أين كنت كلّ هذا الغياب؟”، ودّ لو يقول لها.. لو يذكّرها إنه سبق واقترح أن تتّصل به غير أنه تراجع.. فقد اقتنع دائمًا بما قالته مديرة الجالري.”إذا أردت أن تُبقي طائرًا غريدًا جميلًا على كتفك.. ابقَ ساكنًا لا تحرّك كتفك.. ودعه يتحرّك على راحته. وتحوّل إلى رأي آخر قال لها اللقاء بك كان رائعًا.. رجوت لو أنه طال. شجّعها ما قاله وفتح ابوابًا موصدة أسعده أن تفتح في وجهه بعد معاناة عمر.. همست له قائلة أما طعم الاسبرسو فما زال على شفتي. أدخله ما قالته في حالة من الوجد فانبرى يمتدح الاسبرسو.. وراح يتفلسف ” فعلًا.. فعلًا.. طعم الاسبرسو مع مَن ترتاح إليهم قلوبنا يختلف في لذته لونه ونكهته”. وتشجّع فرمى ما أراد رميه من اقتراح.. همس لها بصوت تعمّد أن ينقل إليها عبره حفنة كبيرة من المشاعر السجينة المحتبسة في صدره. قال هل يمكن أن نلتقي.. مساء اليوم.. هناك معرض فنيّ في الجالري البلدي. فجاءه صوتها العذب وهل يمكنني ألا آتي؟.
انتهت المكالمة بينهما غير أن تفكيره بها ابتدأ مُجددًا.. تناسى ما أوحت به إليه مديرة الجالري عن الفنانة صاحبة الموعد ورغبتها الجامحة في جلب الاهتمام إليها، عندما جاء المساء تناول أفضل ما لديه من ملابس، ارتداها بتؤدة رجل عثر على موعد حياته الأكبر. بعد ذلك تناول قارورة الطيب ودلق أكثر ما يمكن من محتواها على أنحاء ملابسه المختلفة. ففاحت الرائحة في جميع أنحاء البيت.. مندفعة من تحت باب غرفته المغلقة بإحكام. لم يمضِ طويل وقت حتى سمع طرقًا على باب غرفته. ففتح الباب. ليجد زوجته في كامل زينتها وذروة رائحتها الذكية. دخلت زوجته لأول مرة بخطى راغبة ثابتة فسألها عمّا تنوي أن تفعله. فأخبرته أنها منذ فاحت الرائحة الذكية في البيت راحت تستعد لمرافقته إلى أي مكان يتوجّه اليه. ابتسم لها وهو يخبرها أنه مدعو للمشاركة في معرض فنيّ يقام بعد قليل في الجالري البلدي. وتذكّر أنها رفضت دائمًا مرافقته إلى مثل تلك المعارض. فبادر إلى تذكيرها بذلك فما كان منها إلا أن قالت له بإصرار امرأة تشعر أن عصفورها سيفرّ مِن عُشها.. وسوف يُحلّق بعيدًا:” هذه المرة سأرافقك وستكون رجلي على رجلك”.
بعد قليل خرج الاثنان من بيتهما نازلين أدراجه العالية .. درجة إثر درجة.. عندما وصلا إلى الشارع العام انطلقا جنبًا إلى جنب. كان الطريق بين بيتهما والجالري البلدي قصيرًا جدًا. عندما دخلا الجالري أخبرتهما مديرته بأن الوقت ما زال مبكّرًا، وأن بإمكانهما أن يشربا الاسبرسو حتى يحين وقت العرض. عندها رأى الفنان الزوج الفرصة مناسبة لأن يعلن عن ملله.. من الانتظار وأهله.. وأن يقترح على رفيقته، حليلته المرافقة المتجدّدة، أن يتوجّها إلى الكوفي شوف القائم هناك في راس الجبل الاشمّ ليشربا الاسبرسو اللذيذ معًا..
انطلق الاثنان باتجاه هدفهما مثل صاروخين تمّ توجيههما جيدًا.. وكان كلّ منهما يفكر في ذاته. الزوجة كانت تفكّر في الفترة الجديدة الفائحة عطرًا في حياتها.. والزوج الفنان وحيد الرشّ كان يفكّر في تلك الفنانة قاتلة ملله وقاطعة درب روتينه اليومي.