اضمن
ادب

البروفيسور المرحوم جورج قنازع كان متشددا في منح العلامات لتلاميذه

بقلم: ناجي ظاهر

ذكريات مع شخصية علمية ثقافية من بلدي

ناجي ظاهر

(من تعقيب المحرر فهيم أبو ركن: البروفيسور المرحوم جورج قنازع كان متشددا في منح العلامات لتلاميذه).

ربطتني بالدكتور البروفيسور الراحل جورج جرجورة قنازع (1941/ 14-5-2021)، علاقة مودة واحترام خلال العشرات من السنين، وقد التقيت به عبر مستويين أحدهما الادبي الثقافي والآخر الشخصي اليومي. هذه الرابطة توطّدت يومًا بعد يوم، شهرًا إثر شهر وعامًا عقب عام، وكنت أشعر كلّما التقينا بأنني إنما أقف أمام رجل علم وثقافة من بلدي تخرّجت على يديه أجيالٌ وأجيال من طالبي العلوم العالية وشُداتها لا سيما في الفترة التي شغل فيها منصب رئيس قسم اللغة العربية في جامعة حيفا. ويهمني أن أشير هنا إلى أن المرحوم وضع ونشر العديد من الاعمال الادبية الثقافية باللغتين، العربية والانجليزية من مؤلفاته نشير إلى: ديوان العسكري (تحقيق) دمشق، مجمع اللغة العربية 1980.* إصلاح ما غلط به أبو عبد الله النمري مما فسّره من أبيات الحماسة أولًا وثانيًا للأعرابي الأسود (تحقيق ودراسة)* فصول التماثيل في تباشير السرور للشاعر عبد الله بن المعتز (تحقيق ودراسة)، بالاشتراك مع الدكتور فهد أبو خضرة.

كما يحدث عادة بين أبناء البلدة الواحدة الصغيرة، تعرّفت على فقيدنا الغالي في طفولتي، وذلك عبر استماعي لاسمه يتردّد في الحارة التي أقمنا فيها، نحن ابناء العائلة المهجرة من قريتها سيرين، حي الصفافرة، وكثيرًا ما كنتُ استمع إلى اسمه يتردّد بنوع من التبجيل والاحترام له كإنسان وطالب علم مجتهد، عرفته المحافل العلمية العليا في الخارج والداخل، بمثابرته وإصراره على تحصل العلم. ويمضي الزمن لألتقي به برفقة رهط من الاصدقاء ليخبرني أن هناك قصصًا قصيرة من إنتاجي يتمُّ تدريسُها في جامعة حيفا وأنه دائم التفكير في تسليط الضوء على كتابنا وكتاباتنا الادبية المحلية، موضّحًا أن هذا واحد من المهمات التي شرع بتشجيعها خدمة لأدبنا وتعزيزًا للعلاقة المفترض تنميتُها وتقويتُها بين مبدعينا وبين اخوانهم من جمهور الطلاب الجامعيين.

سرّني موقفه هذا في حينها، فأنا أرى، إضافة إلى ما قاله وتفضّل به أمامي، أن العلاقة بين المبدع العربي والجمهور المتلقي في كل بلاد الدنيا وفي بلادنا خاصةً، يجب أن تُنمّى لتطرح ثمرها ويؤتى أكلها، وكثيرًا ما كنتُ أتساءل، وأنا أرى إلى الاهتمام المتزايد من جمهورنا، قراءً عاديين وطلابَ دراسات عليا، بما ينتجه المبدعون في شتى بقاع العالم متناسين أن لدينا مبدعين وإبداعات لا تقلُّ أهميةً، فأتساءل: أليس الاجدر أن يعرف أحدُنا الآخر قبل أن يعرف آخرين وثقافات أخرى، وكثيرًا ما كنتُ أردّد المثلَ السائرَ: “اللي بشلح اثوابه بعرى”. فلماذا يعيش الكثيرون بين ظهرانينا مثل هكذا عُري، بل لماذا يقبلون به، وقد قادني هكذا وضع إلى التعمّق في دراسة المحلية والعالمية/ مع أنني أفضل كلمة الاجنبية بدل العالمية هذه، فرأيت في أكثر من مقالةٍ وكتابةٍ نشرتُها خلالَ السنوات المديدة الماضية، واطّلع عليها قراءٌ في بلادنا والخارج، أن المحلية هي رسولُنا إلى الشعوب الاخرى في شتى أصقاع العالم، وكنت أخلُص إلى أن انتشار الانتاج الادبي وعالميته تكمن في محليته، وأن الابداع بشتى أنواعهِ خاصةً الادبي، كلّما أوغل في محليته وصلَ إلى عالميته أو العالم. كان هذا بالطبع في تلك الفترة البعيدة، وقد التفت الكثيرون بعدها إلى أهمية دراسة أدبنا المحلي.. فكان لهم ما أرادوه إلى حدّ بعيد.

ما حدث بعد ذلك اللقاء أن احترامي للجار العالِم الجليل جورج قنازع نما وازداد واتسعت دائرتُه، فقد التقينا، هو وأنا، في نقطةٍ مركّزة، محددةٍ وذات حساسية بالنسبة لي.. لها موقعُها المحوري والخاص في تفكيري وحياتي، لهذا ما إن كان يزورنا في مجلة “المواكب”، التي كانت تصدر في حينها، وأذكر بكثير من الحنين إلى أيامها الطيبة العذبة أنني عملت حينها محررًا فيها.. أقول ما كان يزورنا حتى أجلس إليه برفقة الاخوة محرري المجلة، أذكر منهم الشعراء والكتاب: فوزي جريس عبد الله، جمال قعوار، ادمون شحادة، طابت ذكراهم، إضافة إلى الصديق المثقف والباحث الادبي الاستاذ عطا الله جبر أطال الله في عمره، لنتبادل الآراء والافكار في الأدب والحياة، وكان جورج معجبًا بـ “المواكب”، كونها كرّست نفسها لنشر الابداعات الادبية المحلية ووضعت نشرها هذه الابداعات في أعلى سُلم أولياتِها.

اللقاءاتُ بجورج تتالت بصورة متقطعة جدًا لكن ثرية، وأذكر منها لقاءين لا يمكن أن أنساهما، كان الأول عندما توفّى الله والدته، فقمنا في هيئة تحرير المواكب بزيارته في بيته القائم، حينها في حي الروم.. في ناصرتنا المشتركة، لتقديم واجب العزاء، وأذكر أننا واصلنا في ذلك اللقاء أحاديثَنا عن الأدب والأدباء المحليين، وتوجّناه، بصورة عامة، بالتعريج على أهمية الأم في حياة الأبناء، مشيرين أن رحيلها يُعتبر الخسارة الصعبة بل الأصعب في الحياة. اللقاء الثاني تمّ قبل سنوات، عندما أرادت مدرسةُ ابن عامر الابتدائية، القائمة بالقرب من بيته الخاص، في حي الفاخورة النصراوي، أن تقيم احتفالًا بهيجًا في نهاية إحدى السنوات، وتم الاتفاق بين إدارة المدرسة ممثلةً بمديرتها الفاضلة السيدة سلوى زعبي وبيني، أنا مُعلّم الكتابة الابداعية في المدرسة، على أن ندعو جارَ المدرسة البروفيسور جورج قنازع لحضور ذلك الاحتفال والقاء كلمة، وما زلت أذكر ردّ فعله الطيب عندما قُلت له إن المدرسة تتشرف بمشاركته في احتفال التخرج ذاك. في يوم الاحتفال حضر المرحوم مبكرًا وقبل موعد الاحتفال بحوالي نصف الساعة، وقد كان يشعُّ محبةً ومودةً وألقى في الاحتفال كلمة مقتضبة حيا فيها الهيئة التدريسية وطلابَ المدرسة، وحثّهم على طلب العلم فنحن العرب لن نتقدم ونلحق بركب الشعوب السباقة المتطورة إلا بالعلم، وقد لاقت كلمته هذه صدىً طيبًا لدى إدارة المدرسة فكرّمته بمنحه شهادة تقديرية رسمت الابتسامةَ الواسعة على وجهه الوديع وتغره البسّام.

رحم الله فقيدنا الطيب، فقد كان رجلَ علم واسعَ الاطلاع، عُرف بتواضعه ودماثة أخلاقه، وقد درس الحضارة العربية إلى جانب اللغة الانجليزية، مشبّكًا بين الثقافات والحضارات، ورائيًا أن من لا ماضي له لا مستقبل له، وأننا إذا ما أردنا أن نفهمَ الحاضرَ علينا أن ندرس الماضي، كما ردد أكثر من مرة.. وفي أكثر من لقاء.

(تعقيب من المحرر: لقد حالفني الحظ أن أتتلمذ على يدي المرحوم في جامعة حيفا – قسم اللغة العربية، وقد قال لي بعض الزملاء: “كيف اخترت هذا الموضوع عند البروفيسور قنازع، فهو شديد التدقيق، لا يعطي علامات بصورة سهلة ويشدد كثيرا على المستوى”، وكان هذا الكلام حافزا لي لمواصلة الدراسة، وقد أعجبت باتساع ثقافته ومهنيته وطريقة تدريسه، فدرسنا الأدب القديم طوال الفصل وتعرفنا على النقد القديم وأهميته، وكبار النقاد أمثال: ابن سلام الجمحي (طبقات فحول الشعراء)، والجاحظ (البيان والتبيين)، ابن قتيبة (الشعر والشعراء)، و(أدب الكاتب)، ابن طباطبة (عيار الشعر)، قدامة بن جعفر (نقد الشعر)، العسكري (الصناعتين)، ابن رشيق (العمدة)، الجرجاني (دلائل الاعجاز)، و(أسرار البلاغة)، ابن الأثير (المثل السائر). وفي نهاية الفصل قدمت له بحثا عن الشاعر المغمور “يزيد بن الطثرية”، وقال لي بعض الزملاء: “إذا نلت علامة 75 أو 80 أبو زيد خالك”، ولم تكن العلامة تهمني بقدر أنني استمتعت في دروسه واستفدت من محاضراته، ومع ذلك غمرني السرور عندما أعاد لي البحث مذيلا بعلامة 94 من 100. رحمك الله أيها الباحث الكبير والحاضر القدير، واسكنك فسيح الجنان. فهيم أبو ركن)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock