أضواء على باكورة الروائية نيفين سمارة

أضواء على باكورة الروائية نيفين سمارة
يسعدني أن أشارك في هذه الندوة حول رواية “نصف ما تبقى” حيث سألقي بعض الأضواء على باكورة الروائية الدكتورة نيفين سمارة، شاكرا لها وللدكتور يوسف بشارة على أن أتاحا لي هذه الفرصة بالمشاركة في هذه الأمسية الهامة، وأقول هامة لأننا نحتفي بكتاب وكاتبة نرجو أن تكون لها استمرارية في رفد المشهد الثقافي بمثل هذه الروايات التي تعبر عن واقعنا الذي نعيشه بضغوطه ومشاكله، بأفراحه وأتراحه، بآماله وآلامه. وشكرا لمنظمي الأمسية ولعريفها المتألق الأستاذ حمزة عبد الرحمن وللجمهور الذي جاء للاحتفاء بهذه الرواية.
بداية نلج عالم الرواية من بوابته الأولى ألا وهي العنوان: “نصف ما تبقى” عنوان جذاب، يستفز القارئ ويولد حب الاستطلاع ليحاول معرفة ما هو النصف الذي ذهب أو اختفى، وليجد الإجابة عما هو النصف الذي تبقى، ومن هنا نعلم أن الروائية نجحت في اختيار العنوان، وقد استعمل ما يشبه هذا العنوان سابقا غسان كنفاني الذي نشر رواية بعنوان “ما تبقى لكم”، ولكن رغم التشابه في العنوان فلا صلة للفحوى بين الروايتين، فرواية غسان تتحدث عن أسرةٍ فلسطينية نزحت إلى غزة من مدينة يافا بعد أن استولى اليهود على المدينة، وأدى هذا النزوح إلى تشتت الأسرة وتفتتها.. الخ.
ومن العنوان ننتقل إلى لوحة الغلاف المكونة من عدة شخصيات تمثل مختلف مكونات مجتمعنا، الرجل الكهل والشاب، الرجل العصري والرجل التقليدي أو الشيخ، نرى المرأة المحجبة والمرأة السافرة، لقد رسم الفنان خالد الشخصيات بملامح غير واضحة فهل قصد التعبير عن تخبط المجتمع العربي برؤيا غير واضحة؟ أعتقد أن الفنان خالد حوراني نجح بالتعبير عن مضمون الرواية أو الإيحاء بهذا المضمون على الأقل.
لا أريد أن أتحدث عن قصة الرواية بمجملها وسأترك ذلك للقارئ ليكتشفها أو ليعيشها ولكنني سأسلط بعض الإضاءات على القضايا التي عالجتها الكاتبة.
الرواية هي رواية عاطفية واقعية وذلك لما تتمتع به من وصف الأحداث التي يعيشها مجتمعنا والأحاسيس التي تنتاب كل شخص منا في هذا العصر المعقد المتقلب السريع، والتي اختلطت فيه الأشياء.
ولكي نوضح ذلك نتطرق لعدة نقاط كالآتي:
بطلة الرواية تحاول أن تمارس حياتها متأرجحة بين قضاياها المتنوعة وبين واقعها المعقد المتقلب بين مشاكلها الزوجية، وبين قصة حبها، بين قضية العنف في المجتمع العنف الذي طال أخاها وبين النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
استغلت الكاتبة عنصر الحب كخيط هام في حبكة روايتها حيث تتصاعد الأحداث بين القبول والرفض فتبدأ العقدة بالصعود والتطور مستفيدة من عناصر أخرى تدعم عنصر التشويق، حتى تصل الذروة. العناصر التي تستخدمها أو تستفيد منها استمدتها من واقعنا مثل قضية العنف وقضية السلاح غير المرخص وحوادث إطلاق النار وربما القتل، وتورط أخيها وربما زوجها أيضا فيها، حيث يقول لها زوجها وليد صفحة 38: “مساء أمس، أجرت الشرطة تفتيشا في بيت والدك، كانوا يبحثون عن سلاح. وجدوا قطعة غير مرخصة، وأخذوا أميرا إلى المركز”. فتسأله بما معناه “وهل لك علاقة بذلك؟” \، أما جدتها فتتساءل موجوعة في الصفحة الرابعة والأربعين: “كيف لم يرَوا الشر القادم؟ كيف لم يربوه طوال هذه السنين؟ هم فقط من يحبون أبناءهم! ألم أحب رشيدا وليلى، كنا محرومين نعيش بالكفاف ومع هذا لم نفسُد، لم أفسد أولادي، لا الفقر أفسدنا ولا العوز، أفسدوه بالغنى، وأي غنى، حسرة، معاش البلدية؟ من أين جاء بالسلاح؟” انتهى الاقتباس. إذن هي تطرح القضايا الهامة الموجعة والتي يعاني منها مجتمعنا وتقارن بين تمسك الأجيال القديمة بالأخلاق والقيم رغم الصعوبات وبين ابتعاد الأجيال الصاعدة عنها رغم الحالة الاقتصادية المريحة، أو بسببها. وصفحة 56 حول تورط أخيها أمير يشرح لها زوجها وليد قائلا: “الشاب ككل أبناء جيله يحب القوة والمال ويسعى للوصول إليهما بسرعة”.
وقضية أخرى تطرحها الكاتبة وهي رفض إنجاب الأطفال مع الطموح لبناء المستقبل المهني، واسمحوا لي أن أستشهد بنموذجين يعبران عن ترددها أو رفضها لإنجاب الأطفال: فصفحة 37 حوار في الصباح بينها وبين زوجها وليد بعد التواصل في الليل، واقتبس: “فتحت عينيها قائلة: لمْ تأخذ حذرك يا وليد المرة، وكأنك تقصدها.
جلس بقربها على السرير مبتسما: لا أنكر أبدا، أنا أريد طفلا منك وبأسرع وقت”
أما في الصفحة الحادية والستين فأقتبس: “في الماضي كانت على ثقة بأنها لن تكون من أولئك النسوة اللواتي يسقطن صريعات الحمل. لكنها كل يوم على وشك السقوط”. إلى أن تقول في الصفحة الثانية والستين تعبيرا عن قلقها فتقول: “في آخر الحمل طفل، إنسان، مسؤولية كبرى لم تكن تشعر أن أيا منهما مستعد لها.” انتهى الاقتباس.
من خلال مثل هذه الحوارات ومن خلال الوصف رسمت لنا الكاتبة خطوطا واضحة لشخصيات الرواية خاصة لأبطالها ميسم وليد وعلي، ولشخصيات ثانوية مثل أمير والجدة والأم والأب وغيرهم.
وفي خضم أحداث الرواية نشعر بالغربة أو العبثية التي يعاني منها بطلا الرواية، فاسمعوا عليا يقول صفحة 101: كي تستمر الحياة عليك أن تتنازل عن نفسك، أن تعيش وأنت لا تثق بشيء ولا بأحد. هل يمكن هذا؟” وفي نفس الصفحة تقول ميسم: “العرب يسيرون تائهين في عاصمة الإنجليز.” ومثال على التخبط العاطفي في ظل الإيمان أو التقاليد أو القيود، نسمع عليا صفحة 103 يبث شكواه قائلا: لا تتكلمي، أرجوك! دعيني أحدثك بألمي من دون أن تجيبي، من دون أن تعظيني. ألا تتحملين كل أسئلتي وشكوكي؟ تحملي هذه أيضا! إني أحبك ولا أستطيع، إني أريدك ولا أصل، بل لا أريد أن أصل. لكني موجوع. لم لفظ الخطيئة الآن؟ أهو الله من يقف بيننا الآن؟ صدقا؟ أم التربية والعادات؟ أهو الله حقا أم أبوك وأمك؟
إنها تعبر عن الإشكالات والصراعات في حياة المرأة الفلسطينية في دولة إسرائيل وأحاسيسها المتأرجحة أو حتى المتناقضة بين احتياجات الحياة الطبيعية وبين الطموح والآمال المستقبلية، بين العراقيل التي تواجهها وبين أحلام تحقيق الذات، بين أن تكون بطلة منتصرة أو بطلة مهزومة، رابحة أو خاسرة! أحيانا نراها مهزومة أمام واجباتها الزوجية والعائلية وأمام العادات والتقاليد، وأحيانا أخرى نراها منتصرة حازمة حين تقرر طلب الطلاق. فالبطلة تركت زوجها لأسباب عدة ولشعور غير واضح المعالم، هل لظنها أو شكها أن لزوجها علاقة بعالم الإجرام؟ أم أثرت عليها علاقتها بعلي الطبيب المصري؟
باختصار الرواية من جملة القضايا التي تطرحها تتطرق لقضية كمّ الأفواه في الدول العربية من خلال علاقتها مع علي المصري وخوفه من التعبير واختفائه في آخر القصة، وتعرض للحروب بين إسرائيل وغزة وتصف لا جدوى هذه الحروب بعد سماعها التحليلات. “في صغرها في كل الجولات السابقة كانت تجلس أمام شاشة التلفاز متسمرة مع الآخرين يتابعون الأحداث، يمدحون الصمود وكسر القيود، وبعض الأغاني تعزف فتلاطف الألم … إلى أن تقول: وصلت على قناعة أنهم مجتمع مجنون. لا تفسير لكم التناقض في المشاعر والأفعال وفي الكلام والصمت إلا الجنون. لا أحد سويا في فلسطين وليعرفوها كيفما شاءوا: تاريخية، مقسمة، مجزأة، محطمة، مع حدود بدون حدود”. انتهى الاقتباس.
بالنسبة لأسلوب الرواية فكما قلت هي واقعية، نجحت المؤلفة بالتعبير عن ذلك الواقع من خلال عدة عناصر أولها المنولوج، أي الحوار الداخلي أو مناجاة النفس؛ فهي تعبر بواسطته عن قلق وصراع الذات الإنسانية في مواجهة الأحداث وتطرح على نفسها أسئلة جوهرية في الصميم. وثانيها الحوار بين الشخصيات بعضها مع بعض حيث جاء الحوار سلسا مقنعا، قصيرا مقتضبا في أغلب الأحيان بعيدا عن الخطابة المملة التي يقع في شركها العديد من الروائيين، رغم أنه ثمة حوارات طويلة نوعا ما ولكنها قليلة مهدت لها فبقيت في نطاق المعقول أو المقبول. هذا ساعد على ديناميكية الرواية واستمرار عنصر التشويق الذي يجذب القارئ لمواصلة القراءة، والنماذج كثيرة في الكتاب.
الكاتبة من خلال الحوار والمونولوج بالإضافة إلى كلام الراوي تجسد عوالم وحالات ومواقف مختلفة، منوعة ومتفاوتة شكلت تصويرا بارعا للواقع الذي نعيشه على جميع الأصعدة، العملية، العاطفية، الوطنية، الثقافية والسياسية. إنها تصف واقعنا المعاش بدقة، تصف ضغوط العمل والحياة الزوجية ومراوحتها بين الملل والرتابة وبين الواجبات الزوجية والحب المفاجئ، وقد جاء الوصف مطابقا للحدث أو الحالة. وأقدم نموذجا صفحة 123 حيث تفاجئ القارئ بجملة وأقتبس: “قتل أمير” بعد ذلك تشرح: قتل وهو خارج من جلسة مع أصدقائه.. الخ. هكذا فجأة بدأت الفقرة، وبذلك أحسنت التعبير لأن القتل دائما يأتي مفاجئا غير متوقع. ولكنها في الأحداث التي سبقت ذلك مهدت لنا لنتقبل المفاجأة وليس كبعض الروايات أو الأفلام العربية التي تأتي بمفاجآت منفصلة تماما عن الأحداث.
كذلك استعملت في اسلوبها بعض الأوصاف والاستعارات الجميلة، مثل “كان صمته أبرد من نسمة ريح باردة”، أو “علا صوت دموعها”. ومثل” “وقت المغرب يرسل البحر الأبيض رسائله ريحا خفيفة رطبة…” أو مثل “مسحت حزنها..”.. مثل هذه التعابير ترطب جو الرواية وتبعدها عن الجفاف السردي الذي يصاحب بعض الروايات الواقعية.
أخيرا نجمل بالقول: الرواية تطرح القضايا بجرأة وشجاعة وتصف بصراحة ودقة واقعنا من خلال أحداث واقعية أو قريبة جدا من الواقع، نجحت الكاتبة بعرضها بشكل شائق ومقنع.
ولا بد من التنويه لما بدأت فيه الروائية كتابها والذي يطلعنا على مدى تقدير الكاتبة لأهلها وللكتب، ونفهم ذلك من الإهداء إذ تقول: إلى أمي فدوى التي علمتني أن العطاء عقيدة، وإلى ابي فوزي الذي أهداني كتابا فأهداني الدنيا وما فيها. فليس غريبا أن نحظى بروائية طبيبة مثقفة. كل الاحترام لها ولأسرة متنورة وألف مبارك.