أسعد بدر مغربي قصة قصيرة المصون
أسعد بدر مغربي
قصة قصيرة
المصون
البيوت طينية متشابكة. الجدران مشتركة. أهل القرية عائلة واحدة متجانسة. ايام روتينية. في البلد لا مكان للأسرار، أحداث المساء تتداولها النساء خلال النهار. نواح المصون في الليالي أول وآخر الأخبار، اعتاده الكبار والصغار، نواح يأخذ كل ليلة لحنا موجعا جديدا يقطع قلوب النساء والرجال. لا حيلة إذا وقعت الأقدار، الخير من عند الله، والشر قسمة ونصيب. الكل للكل، والكل يدعو الله أن يجبر خاطر المصون.. غريبة البلاد وزوجها العليل، وأن يمن عليهما بولد ينتظرانه منذ أكثر من عشر سنين.
ديوان القرية ملتقى أعيان البلد ووجهاء الناحية، ترعاه ببراعة “ستي حشمة” إم الذيب الثمانينية الرجالية، حفيدة قاضي عشائر الذيبان على الشفتين، الفراري الذي عاد قبل قرن مشياً على الأقدام من بلاد الترك هرباً من أهوال الحرب الكبرى.
كل صباح يلتئم رواد الديوان لمتابعة شؤون الزراعة والحصيدة والمواشي والناس.
ستي حشمة تتصدر الديوان، تديره بنظام وحزم، تملك الحكمة وبعد النظر، تلخص الكلام، تجزم، وعند الضرورة تحسم، وتحلف بالحرام.
ينساب الحديث حسب أصول المضافة على مر الأجيال. تراعى آداب الإصغاء، سلاسة تداور الكلام، التفاعل مع المتحدث، كل يدلي بدلوه حسب اختصاصه.. هكذا تتم المتابعة اليومية لشؤون الزراعة، والحصيدة، والمواشي والناس.
اليوم على غير العادة.. الصمت مطبق، المعلم فهيمو غائب، المختار محتار، خوري الكنيسة يخونه الكلام، التهليل والتكبير هو الشاهد الوحيد على حضور إمام المسجد. ابو فهيم يبحلق في المجهول، الناطور بين الشك واليقين
فاته صب القهوة المرة لآخر الوافدين.
الإرتباك سيد الموقف، للذهول على وجوه الرجال لون، وللحيرة رائحة.
ستي حشمة تراقب المشهد باستهجان. وعتب وغضب. منذ نصف قرن لم تعهد هذا الشلل والعجز يلف مجلس رجال خلقت
لإمتصاص الصدمات ولمواجهة الأزمات. ها هي تتوثب، تتوقد فيها حكمة شبت وشابت عليها…
” بنت الرجال لا تهاب الرجال ” و”لكل عقدة حلّال ” و” لكل فولة كيّال”.
عبثا تحاول استدراج القوم لكسر الصمت المريب. تأكلها الغيرة على هيبة الديوان، تجدل سيجارة إثر أخرى، ومن خلال زوبعة الدخان المنبعثة من حنجرتها تزأر بقسمها المعهود: عليّ ديوان الرجال حرام إذا ما دار الهرج مثل يوم، وأنا Hمك يا ذيب!!!
وأردفت بغضب: يا حيف عالرجال، وبنبرة أمر قالت: هاتوا من الآخر يا وجوه الخير!
لملم إمام الجامع جبته وهمس بوجل:
فهيمو يا ستنا حشمة.. فهيمو ابن الجامعة الأول بالديرة والقضاء، زينة شباب البلد، مُصرّ وناوي يتجوز الأرملة! والمسكين ابو فهيم واقع بورطة كبيرة مع ابنه البكر، ومثل ما انتي عارفة/ فهيمو في الأربعينات، وكل الوقت كان رافض فكرة الزواج من الأصل، وفجأة بين ليلة وضحاها انفتل عقله، وانعمى قلبه عن صبايا البلد وجَمَله طاح باب دار الأرملة!
انتفض خوري الكنيسة يرعد ويؤكد ما يراه الأهم: الحرمة أرملة وعاقر يا ستنا حشمة، دزينة سنين ما عرفت تحبل وتخلّف للمرحوم جوزها ولو بنت عورة
وكل البلد تعرف انها كل عمرها تلطم بالليل والنهار وتبكي قلة حظها بالخلف، وفهيمو وحيد أهله وناوي يتجوز ارملة عاقر ويقطع نسله، وهيك ما جاء بكتاب ولا يرضاه رب العباد. والمرحوم جوزها استسلم للقدر واعتكف عن البشر. عاش من قلة الموت، ومن حسرته وعُسرحيلته غرق بشبر مي في البركة الشرقية.
” يا خبر توه عبر” رددت ستي حشمة في سرها، صُدمت وارتخت، بلّلها العرق، نكأت الحكاية جرحا فيها ظنّته اندمل، غابت عن الدنيا لحظات كأنها ساعات.. المسؤولية جعلتها الحلقة الأضعف في المجلس لأول مرة.
استعادت ستي حشمة قصتها مع المرحوم زوجها الأول. تجربتها وخبرتها جعلتها مع السنين أمينة سر نساء القرية وعنوانهن للمشورة في قضايا الحبل والولادة وأسرار العشرة الزوجية، تعرف المرأة التي على وشك الحمل، تراقب حبال الغسيل، ومن تمشيطة شعر النسوة تخمن متى استحمت آخر مرة. عادت ستي حشمة سنوات إلى الوراء؛ سبق ولفت نظرها عدة مرات إهمال المصون لملابسها، ولزينتها، وإنها لم تشارك النساء في جبل الحنا في الاعراس؛ تذكرت اعتكافها وتأكيد نساء البلد أن المصون لم تضحك ولم تبين سنها منذ أن جاءت عروس عبر الحدود الشمالية، لكنها مثل كل أهل البلد عزَت ذلك لسبب حرمانها من نعمة الأمومة.
راحت ستي حشمة ترتب تفاصيل سيرة المصون من جديد:
الأرملة المسكينة المصون كانت تندب وتنوح منذ السنة الأولى لزواجها، بل هي الآن تجزم أنها لاحظت عليها الإكتئاب مذ زارتها في الأسبوع الأول لزواجها لمباركة بيتها الجديد، حينها لم تلحظ عليها بهجة عروس! الآن تتذكر حديث جاراتها الحيط للحيط بأن المصون لم تفتح باب بيتها صبيحة ليلة الدخلة. لم تنشر غسيلها، وطيلة الأسبوع الأول لزواجها رفضت استقبال المهنئات من جاراتها!! إلّا ستي حشمة، هي الآن تتذكر الاستقبال البارد حين زارتها للمباركة ببيتها الجديد. كانت زيارة قصيرة ناشفة، ختمتها ستي حشمة بأن تمنت أن تزورها ثانية عندما يظهر حملها قريباً؛ عندها ردت عليها المصون بما لم تفهمه في حينه إذ قالت:
يا رب نحبل انا وانت ونخلف بنفس اليوم والساعة!!! يومها تجاهلت ما سمعت واعتبرته حديث عروس فتية عديمة الخبرة، وجهل بتحديد عمر ستي حشمة العجوز، وها هي كلماتها ترن في أذنها الآن وتضعها في سياق الخبر العجيب، وأغرب ما فيه اختيار فهيمو المتعلم، الرجل الناضج الجدّي المر للزواج منها. تستعيد نواح المصون الممهور بالدموع والعويل عندما تقول على مسمع الجيران في ليالي الصيف خلال سهرهم على سطوح البيوت:
يا طيور الطايرة
يا الوحوش الغايرة
سلموا على امي وابوي
وقولو جبينة حايرة!
طالت غيبوبة ستي حشمة، يصعب تحديد فترة شرودها، ربما هي ماتت لفترة وجيزة
وحملها الخيال إلى سنين مضت وعزلها عن الوجود، الواضح الأكيد أن الهرَم احتاجها فجأة، شاخ وجهها، وغزا الشيب
ما ظهر من شعرها.
كانت عيون رجال الديوان جاحظة، قلقة، تراقبها وتنتظر صحوتها.
استفاقت ستي حشمة وباليقين القاطع تأكدت من السر المهول وراء هذا الكم من الحسرة والحزن الذي لف حياة المصون. فهي لم تكن المرأة الوحيدة التي حُرمت من نعمة الإنجاب!، هنالك في البلد عدة نساء تأقلمن مع العقم ولم يلبسن ثوب الحداد كل العمر! وبذكاء اللحظة فكّت السر الذي أشغل أهل البلد طيلة سنة مضت حول ظروف وسبب وفاة زوج المصون المأساوية. استحضرت حالة فهيمو يغالب دموعه كلما تم تداول تصرفات المصون ومبالغتها في النواح والعزلة.
جمعت ستي حشمة قواها، انفكّت عقدة لسانها، وجلجل صوتها الجهوري:
اسمع بو فهيم والحكي للجميع.. الأرملة شابّة وبعز صباها، وهي بتول مثل مريم العذرا، والمرحوم جوزها كان عاجز عن
مقاربة النساء، والأرملة كانت صابرة، ومستورة، صانت سرّه وما كسرت خاطره بين الناس، وابنك البكر يا بو فهيم ابن جامعات، وعارف الصايبة من الخايبة، هي جارته والجار أدرى بالجارة، ابنك فاهم كل الحكاية، فهيم وعند اسمه، خلص الكلام؛ وتفضلوا يا اكابر الليلة على بيت بو فهيم على نيّة نحدِّد يوم نروح نطلب إيد العروس المصون لإبننا المدلّل فهيمو.
طرعان