اضمن
فن

أبعاد مكانية في الفنون التشكيلية ناجي ظاهر

أبعاد مكانية في الفنون التشكيلية

ناجي ظاهر

يكتسب المكان في الفنون الإبداعية عامة والفن التشكيلي خاصة، أهمية كبيرة كون هذا الفن فنا بصريًا، محكومًا بإطار الرؤية. من هنا تأتي أهمية كتاب “المكان في فن التصوير المصري الحديث”، تأليف الدكتور نعيم عطية، صاحب الاجتهادات اللافتة في مجال دراسة الفن التشكيلي، تلك الاجتهادات التي انعكست في تآليفه المعروفة مثل كتبه “الفن الحديث – محاولة للفهم”، “نزهة العيون” و”فنانون ولوحات عالمية”.

كتاب الدكتور نعيم عطية عن المكان، موضوع حديثنا هنا، صدر عام 1993 ضمن سلسلة كتب “دراسات في نقد الفنون الجميلة”، عن “الهيئة المصرية العامة للكتاب”، وحمل رقم 4 بين كتب السلسلة، وقد أتيحت لي قراءة هذا الكتاب مؤخرًا فأحببت أن أقدم للقارئ المهتم بالفنون، قراءة خاصة فيه، وذلك ضمن محاولة للمزيد من الفهم الفني للمكان وأهميته في العمل التشكيلي خاصة.

يُضمّن المؤلف كتابه هذا ثلاث دراسات تتناول العلاقة التي تنشأ بين الفنان والمكان، ويبحث في الدراسة الاولى، حقيقة على جانب هام جدًا في الابداع الفني هي، أن التصوير يدرك المكان ومحتوياته إدراكًا مباشرًا، إلا أنه لا يمكنه فعل هذا في إدراكه للزمان، فيدركه، والحالة هذه، إدراكًا غير مباشر، بمعنى أن إدراك الزمان بالنسبة للمصور التشكيلي، حسب تعبير المؤلف، إنما يكون كمن يدرك الريح دون أن يراها، فاذا رسمها فإنه إنما يفعل هذا عبر تأثيرها على موجودات الطبيعة كالشجر والبحر والصحراء، ويتطرّق المؤلف في دراسته هذه إلى ذلك التنوّع الذي عايشه الفنانون المصريون المعاصرون في تصويرهم للاماكن خاصة في ظل المنجزات العلمية والتقنية الحديثة.

يرصد المؤلف في الدراسة الثانية التي يضمّها الكتاب، مظاهر التدهور التي طرأت على شكل المدينة في مصر خاصة، كما يدرس أسباب هذا التدهور، والاثار النفسية والاجتماعية التي قد يوصل إليها. جاءت هذه الدراسة تحت عنوان “الدمامة في المدينة”، ويمكن اعتبارها دفاعًا عن “جماليات المكان”.

يتوقّف المؤلف في دراسته الثالثة عند البحر، كمكان خاص، ويقسّم دراسته إلى مبحثين يستعرض في الاول العطاءات التشكيلية لمن يسميهم “فرسان البحر”، لينتقل بعد ذلك لتبيين العلاقة الجدلية التي قامت بين الفنان العربي المصري البارز محمود سعيد وبين البحر، حيث ولد وعاش وقضى في الاسكندرية وعلى حوافّها الشاطئية..

ينطلق المؤلف في كتابه هذا من أن المكان في الاعمال الفنية، ليس كينونة حسية دائمًا، وأنه ليس بالضرورة منظرًا طبيعيأ، ذلك أننا في لوحات كثير من الفنانين، نلتقي بما يمكننا أن نسمّيه بالأماكن “الجوّانية أو الخيالية او الحواذية”، وهذه الاخيرة، كما يشرحها المؤلف، هي تلك التي تتسلّط على الفنان ويتكرّر ظهورُها في مرحلة ما من مراحله الفنية أو في أعماله الفنية كلها، ويعلّق المؤلف على هذه الاماكن قائلًا: إنها تبدو لنا وكأنما هي أماكن استحوذت بقوة نفوذها على وجدان مصوّرها الفنان المبدع، فاستطاعت أن تقصي من أمامه، لسبب أو لآخر، معالم أي مكان واقعي محيط به، فتتجلى في لوحاته مشاهد من أماكن استقاها من أحلامه أو خيالاته أو ذكرياته التي قد توغل في الزمن الماضي البعيد، فتبدو مشاهد هذه الاماكن مختلطة بأنفاس الفنان ونبضاته ولواعجه وحسراته وتشوّقاته وخبراته وقراءاته. إن الفنّان المبدع كثيرًا ما يتجاهل المكان الواقعي الذي يعيش فيه فعليًا ويجلب إلى لوحاته بدلًا منه مكانًا يحمل ذكرياته المنطبعة بقوة في مخيّلته عن مكان ربطته به صلة في الماضي، وقد لا يطرد الفنان في بعض الاحيان ذلك المكان القديم من وجدانه الحاضر، وإنما يكتفي بالتداخل معه، فيبدو لنا المشهد الطبيعي المرسوم في اللوحة مطعمًا بشذرات، تقل أو تكثر، من مشاهد المكان القديم، لهذا يصدق القول: إن المنظر الطبيعي ليس صورة ملتقطة من عدسة آلة لا تحس ولا تفكر، بل هي في حقيقيتها حالة نفسية تتأثر بعوامل متعدّدة تتعلّق بذاتية الفنان.

يقع الكتاب في 144 صفحة من القطع المتوسط، ويضمّ مجموعة من إبداعات عدد وفير من الفنانين المصرين، منذ البدايات الأولى لهم، حتى سنة صدور الكتاب، وإلى جانبها تعليقات تغني القارئ وتثريه في معرفة المكان وانعكاساته في الفن عامة، وفي الفن التشكيلي خاصة.

من الملاحظات التي يقدّمها الكتاب لقارئه أن تصاوير الريف والخلاء قد تناقصت لدى الفنان العربي المصري الحديث، لتحلّ محلها تصاوير المدن بعمائرها ومصانعها. ويرى المؤلف أن الفنان الحضري تبعًا لهذا ازداد دخولًا إلى مرسمه وإغلاقًا لبابه عليه، مما حوّل أماكنه إلى أماكن شديدة الخصوصية، ومن ثم زاد تركيز الفنان على تأمل هذه الاماكن والتغلغل إلى أعماق الاشياء، كما فعل التكعيبيون الاصلاء فيما يتعلّق بتصاويرهم للطبيعة الصامتة؛ ويعقّب المؤلف على هذا كله قائلًا: لعلّ عبارة المصوّر الايطالي جورجيو موراندي القائلة: ” إن المرء قد يجوب العالم كله ولا يرى شيئًا”، لعلّ هذه المقولة تعزّز قصر عدد من الفنانين المحدثين تقصياتهم التشكيلية على الاماكن الحميمة واللصيقة بهم.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock